أبو العلاء المعري
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري (363 -449هـ)،
(973 -1057 م) ، شاعر وفيلسوف وأديب سوري . لقب بـ "رهين المحبسين" بعد أن اعتزل الناس لبعض الوقت
رهين المحبسين كتب كثيرا ولم يبق سوى القليل.] - جريدة الشرق الأوسط - تاريخ النشر 19 يوليو-2006 - تاريخ
الوصول 25 أكتوبر-2008
ولد في مدينة المعرة ( معرة النعمان ) في سوريا ، ونشأ في بيت علم ووجاهة ، وأصيب في الرابعة من عمره
بالجدري فكفّ بصره ، وكان نحيف الجسم .نبغ في الشعر والتفسير والفلسفة.
عبقرية المعري
درس علوم اللغة والأدب والحديث والتفسير والفقه والشعر على نفر من أهله، وفيهم القضاة والفقهاء والشعراء،
وقرأ النحو في حلب على أصحاب ابن خالويه ويدل شعره ونثره على أنه كان عالما بالأديان والمذاهب وفي عقائد
الفرق، وكان آية في معرفة التاريخ والأخبار. وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة .
كان على جانب عظيم من الذكاء والفهم وحدة الذهن والحفظ وتوقد الخاطر. وسافر في أواخر سنة 398 هـ، إلى بغداد
فزار دور كتبها وقابله علمائها . وعاد إلى معرة النعمان سنة 400 هـ، وشرع في التأليف والتصنيف ملازما بيته وكان
كاتبه أسمه علي بن عبد الله بن أبي هاشم .
عاش المعري بعد أعتزاله زاهدا في الدنيا، معرضا عن لذاتها، لا يأكل لحم الحيوان حتى قيل أنه لم ياكل اللحم 45 سنة،
ولا ما ينتجه من سمن ولبن أو بيض وعسل، ولا يلبس من الثياب إلا الخشن. ويعتبر المعري من الحكماء والنقاد.
وتوفي المعري عن 86 عاما ودفن في منزله بمعرة النعمان. ولما مات وقف على قبره 84 شاعراً يرثونه.
عقيدته
وقد أثارت عبقرية المعري حسد الحاسدين فمنهم من زعم أنه قرمطي، ومنهم من زعم أنه درزي وآخرون قالوا إنه
ملحد ورووا أشعارا أصطنعوا بعضها وأساؤوا تأويل البعض الآخر، غير أن من الأدباء والعلماء من وقفوا على حقيقة
عقيدته وأثبتوا أن ما قيل من شعر يدل على إلحاده وطعنه في الديانات إنما دس عليه وألحق بديوانه. وممن وقف على
صدق نيته وسلامة عقيدته الصاحب كمال الدين ابن العديم المتوفي سنة 660 هـ، وأحد أعلام عصره، فقد ألّف كتابا
أسماه العدل والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري وفيه يقول عن حساد أبي العلاء " فمنهم من
وضع على لسانه أقوال الملاحدة، ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده، فجعلوا محاسنه عيوبا
وحسناته ذنوبا وعقله حمقا وزهده فسقا، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين والإسلام، وحرفوا كلامه عن
مواضعه وأوقعوه في غير مواقعه . و كان يحرم ايلام الحيوان ولذلك لم يأكل اللحم خمساً وأربعين سنة رفقا منه بالحيوان.
تلاميذه
درس على أبي العلاء كثير من طلاب العلم ممن علا شأنهم في العلم والأدب ، ومنهم :
أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي .
أبو الخطاب العلاء بن حزم الأندلسي.
أبو الطاهر محمد بن أبي الصقر الأنباري.
أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي.
فلم نجد أحد منهم إلا مثنيا على علم المعري وفضله، ومعجبا بشدة فطنته وقوة حافظته، ومعترفا بحسن عقيدته
وصدق إيمانه. وقد شهد جميع شعراء عصره بفطنته وحكمته وعلمه، وعندما توفي المعري ودفن في مدينته معرة
النعمان أجتمع حشد كبير من الشعراء والادباء في تكريمه .
من مؤلفاته
نماذج من شعره
غير مجد في ملتي وإعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي
أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد
ربّ لحد قد صار لحدا مرارا ضاحك من تزاحم الأضداد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
سر إن استطعت رويدا لا إختيالا على رفات العباد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
ديوانه
وهو على ثلاثة أقسام: 1-( لزوم ما لا يلزم ) ويعرف باللزوميات. 2-سقط الزند. 3- ضوء السقط. ويعرف بالدرعيات
وقد ترجم كثير من شعره إلى غير العربية. وقال ابن خلكان: ولكثير من الباحثين تصانيف في آراء المعري وفلسفته.
كتبه
أما كتبه فكثيرة وفهرسها في معجم الأدباء:
الأيك والغصون في الأدب يربو على مائة جزء .
تاج الحرة في النساء وأخلاقهن وعظاتهن ، وهو أربع مائة كراس .
عبث الوليد ، شرح به ونقد ديوان البحتري .
رسالة الغفران
ديوان سقط الزند
رسالة الصاهل والشاحج
رسالة الملائكة
رسالة الهناء
رسالة الفصول والغايات
معجزة احمد (يعني احمد بن الحسين المتنبي)
ولقد ألف العديد من معاصريه، ومن بعدهم كتباً ودراسات حول آراء المعرّي وفلسفته، مثل :
((أوج النحري عن حيثية أبي العلاء المعري ))، ليوسف البديعي،
و((مع ابي العلاء المعري))، لطه حسين،
و((رجعة أبي العلاء ))ل عباس محمود العقاد، وغيرهم كثير.
المرأة عند أبي العلاء المعري
احتلت المرأة من الشعر صدوره وأعجُزَه , تغنى بها الشعراء وتفننوا في وصفها , حتى أخذت من الشعر جزءاً غير يسير.
ورغم أن هذا هو الأصل الذي يكشف عن نظرةٍ محمودةٍ لها, إلا أن غرض الغزل تأرجح بين العذري المقبول,
والحسي المبتذل في الشعر. ولعل الريشة الراسمة لهذه الملامح التي شكَّلت وجه القصيدة – في أي عصر من
العصور – هي ريشة أوجدها ذلك العصر, فرضتْ على القصيدة الألوان والخطوط لتخرجها مطابِقَةً لحالة المجتمع
السائدة. فالمرأة في الشعر الجاهلي ليست المرأة في الشعر الأموي أو العباسي, فلا المكانة التي تتبوؤها هي
نفسها , ولا حالتها في مجتمعها هي ذاتها .. وإن كانت تفرض حضورها على الشعر , فإنها تفرضه بالشكل الذي
يختاره لها عصرها ويختاره الشاعر نفسه لها. وبالنظر إلى وضع المرأة في عصر بني العباس , وأي أثر كانت تتركه,
وأي فساد كانت غارقة في وحله, تتباين آراء الشعراء حولها, فلم تعد المرأة تقتصر على تلك الممدوحة الجميلة والتي
تشبه القمر في الضياء والشمس في الإشراق, بل تعدَّته كل التعدي. فلن نعجب كثيرا إن خَلَتْ قصيدة من القصائد
من ذكرها الذِّكر الحسن الذي يُجِلُّها ويرفعها مكانة سامية, ولن نعجب أبداً إن صار ذكرها مرافقاً للَّهو والشرب والانحلال
الأخلاقي , لتصبح المرأة هي الغواية والفساد متشكِّلة في قينة فاسقةٍ أو جاريةٍ لعوب , أو راهبةٍ من راهبات الأديرة.
عاش المعري في العصر العباسي – القرن الخامس الهجري – ضريراً لا يُبصر الحال ببصَرِهِ , لكنه أبصر الشناعة
والبشاعة كلها بعين بصيرته , فآثر أن ينأى بعيداً عن المرأة , وعن الوحل الذي لطَّخت نفسها بطينه. وربما لتفصيلي
في قضية المرأة عند المعري أوجه عدة سأتطرق فيها إلى تساؤلات تكون بدايات الخيوط التي سأمسك أطرافها لأصل
إلى صورة جليَّة لها للمرأة عنده.
أسئله تليها الأجوبه
• من هي المرأة الأولى في حياة أبي العلاء المعري ؟!
• واقع شعره وما ينطق به في شأن المرأة , هل هو الحاجة إليها , أم الإحجام عنها ؟.!
• موقفه من المرأة عامة ؟!
• هل كانت مظهراً من مظاهر التشاؤم عنده ؟!
• هل لعزوفه عن الزواج علاقة بنظرته القاتمة عن المرأة ؟!
المرأة الأولى في حياة الشاعر المعري :
كانت أم الشاعر صاحبة الأثر الأكبر في حياته , ومن المؤسف حقا أن نجد المؤرخين الذين أرَّخوا لحياة هذا الشاعر قد
أهملوا تلك الأم التي كان لها أكبر الأثر في حياة ابنها , فلم يذكروا عنها إلا النزر اليسير , و ربما كان ذلك راجعا إلى
أهمية الرجل في المجتمع آنذاك أكثر من المرأة. و حتى شاعرنا نفسه أهمل التحدث عنها في الشطر الأول من
حياته , ولكنه عاد وأكثر من ذكرها بعد رحيله إلى بغداد , أي بعد وفاتها , وظلَّ يذكرها حتى قضى نحبه.
والمُطَّلِعُ على شعر المعري يلحظ أنه يكنِّ عاطفة لأمه أقوى بكثير من عاطفته لأبيه , ولا نعلم سبباً لذلك إلا أنه يلوح
لنا أن الأم كانت الأقرب إلى الشاعر الضرير الذي يحس بحاجة ماسَّةٍ إلى معين يساعده ويشاركه ويأخذ بيده ويقيله من
عثراته ( إذ إنه عندما كان في الرابعة من عمره أصيب بالجدري , ولم يُشف من هذه العلة إلا بعد أن شوهت وجهه
بندوب لا شفاء منها , وذهبت ببصره مسدلةً بذلك حجاباً كثيفاً لا سبيل إلى اختراقه بينه وبين دنيا الناس ) وكان ذلك
المعين هو تلك الأم التي لم تكن لتبخل على ولدها بكل ما يريد , وقد عبَّر الشاعر عن مشقة الأم وآلامها حينما قال :
العيش ماضٍ فأكرم والديك به
والأم أولى بإكرام وإحسانِ
وحسبها الحمل والإرضاع تدفعه
أمران بالفضل نالا كل إحسانِ
موقفه من المرأة خاصة :
يقول الدكتور عفيف عبد الرحمن : " الواقع الذي ينطق به شعره أنه كان يتحرق شوقاً إلى الجنس الآخر , سواء اعتبرنا
أشعاره معاناة حقيقية أم هي من مخزون اللاشعور , وإذا كان هذا هو الواقع فلِمَ أحجم عن الاتصال بالمرأة والاقتران
بها مع أن الكثيرين ممن هم في مثل مصابه كبشار بن برد مثلا تزوجوا وتمتعوا رغم فقد بصرهم ؟!
لا بد إذن أن يكون في مزاج الشاعر ونفسيته ما يمنعه من الزواج والاتصال بعالم المرأة ومعاناة التجربة معاناة حقيقية .
إما أن تكون حساسية الشاعر وحياؤه حالا دون أن يفرض نفسه على شريكة حياة له يكون هو عبئا ثقيلاً عليها , وإما
أنه أصابه منها أذى فمنعه كبرياؤه من ذكر هذا الأذى , وإما أن يكون قد أدرك أن الحاجة للمرأة هي المعاناة في هذه
الحياة وهذا ما حققته له أمه , وعندما ماتت أمه كانت قد تقدمت به السن .
وإما أن يكون قد رأى أن هناك تعارضا بين طموحه وأسفاره وبين الزواج , ولعل سببا بعيداً وهو أن الشاعر قد يكون ذا
مذهبٍ فلسفيٍّ يُحرِّم الزواج , واقتنع بعقمه وجعله يصرِّح بعدم رغبته في تكرار المأساة :
هذا جناه أبي عليَّ
وما جنيتُ على أحد
فالمعري كان نتيجة خطأ والده ولن يقع هو في نفس الخطأ . وفي امتناعه عن الزواج ما يجعلنا " نرى جانباً من تشاؤمه
الأسود الذي ضرب ظلماته على حياته وجميع أفكاره (2) وقد هاجم فكرة الزواج والنسل في شعره كثيرا :
فليت حواء عقيما غدت
لا تلد الناس ولا تحبل (1)
موقفه من المرأة عامة :
ولعلنا نزداد عجباً حين نعرض لموقفين متناقضين للمعري , أولهما موقفه من أمه خاصة , والثاني موقفه من المرأة
عامة والذي يتلخص في أن المرأة مصدر كل شر , ولعله كان يُصدر رأيه عن المرأة عامة وبالنظر إلى وضع المرأة في
عصره وأثرها وفسادها , وخلاصة رأيه فيها :
أشْدُدْ يدَيْكَ بما أقـولُ، فقَولُ بعضِ النّاسِ دُرُّ
لا تَدنُوَنّ مِنَ النّسـاءِ، فإنّ غِبّ الأرْيِ مُرّ
والباءُ مثلُ البَاء، تَخــفِضُ للدّناءَةِ أوْ تَجُرّ
سَلِّ الفؤادَ عن الـحَياةِ، فإنّها شَــرٌّ وشُرّ
قدْ نلتَ منها ما كَفاكَ، فما ظفِرْتَ بما يَسُرّ
صَدَفَ الطّبيبُ عن الطّعامِ، وقال: مأكلُهُ يَضُرّ
وربما كان لما يسمعه عن فساد المرأة نتيجة الاختلاط أثر في إبعاده عن التفكير في أمر الاقتران بها ,
إذْ كيف يتسنى له ملازمتها ومراقبتها ومجاراتها في المجتمع وهو الشاعر الضرير .
ومن يدري فلعلهن كن ينفرن منه :
ولا يدنين من رجل ضريرٍ
يلقنهن آيا محكمات
وهو ينكر عليهن حتى تعبدهن , فتعبدهن للغواية أيضاً :
وليس عكوفهن على المصلَّى ...... أماناً عن غوارٍ مجرمات
و قد بلغ به الأمر حداً جعله ينهى عن تعليمهن :
سهامُ إن عرفن كتاب لسنٍ ...... رجعن بما يسوءُ مسمَّمَاتِ
وقد غالى المعري في وصف فسادهن وسوء الظن بهن :
إذا بلغ الوليد لديك عشراً ...... فلا يدخل على الحرم الوليدُ
ألا إن النساء حبال غيٍّ ...... بهن يُضَيَّعُ الشرف التليدُ
عزوفه عن الزواج :
ونرجح أن آراء المعري في المرأة والزواج والنسل تؤكد وجود عقدة الشك عند المعري في المرأة ,
وعلى وجه التحديد في امرأة عصره . وإذا كان يشك فيها من جميع الوجوه فكيف يقترن بها !؟
وكيف يُسلم أمره إليها وهو الرجل الضرير ؟!
ولئن حرَّم الشاعر على نفسه الزواج لظروفه الخاصة فإنه لم يحرِّمه على غيره , لكنه اشترط شروطا معينة .
وهو لا يستقرُّ على رأي بالنسبة للزواج , فهو ينصح الفتى بعدم الزواج , وينصح الفتاة بالزواج :
واطلب لبنتك زوجا كي يراعيها .... وخوِّف ابنك من نسلٍ و تزويج
فكيف يتم هذا ؟!
ونراه يتراجع عن رأيه في وجوب عقم المرأة فيرى أنه لا بأس من وجود أولاد شريطة توفر الخير فيهم :
خير النساء اللواتي لا يلدن لكم .... فإن ولدن فخير النسل ما نفعا
وأكثر النسل يشقى الوالدان به .... فليته كان عن آبائه دفعا
و قد اختلط عليه الأمر فأصبحت العفيفة في نظره كالعاهرة :
ولقد تشابه في الظواهر مولد ..... حِلُّ النكاح ومولد بعهار
وأنكر الطهر في هذا العالم وبخاصة بين النساء :
أ يوجد في الورى نفر طهارى ...... أم الأقوام كلهم رجوس
بنات العم تأباها النصارى ...... وبالأخوات أعرست المجوس
وذهب بعضهم (3) إلى أن المعري رأى الشقاء يأتي من النسل, فلسفياً فيما يتعلق بالمنسول, واجتماعياً فيما يتعلق
بالناسل, أما المنسول فإن والده سيأتي به إلى دار شقاء وعذاب. و أما الناسل فيلقى العذاب والشقاء من أولاده
أنفسهم ويسبب أولاده أذى في جسمه وفي ماله وفي جاهه.
والآن وبعد كل الذي عرضت أستطيع أن أرد سبب عزوفه عن الزواج إلى عوامل ثلاثة :
أولها, ظرفه الخاص وفقد بصره.
وثانيها, وضع المرأة في ذلك العصر و اتضاح تلك الصور عنده مما جعله ينفر منها.
و ثالثها, فلسفته العامة عن الحياة
والموت والكون وتأصل طبيعة الشر ورغبته في وضع حد لتلك الحياة الفاسدة بمنع النسل,
والمرأة مكون أساسي للمجتمع.
ومع ذلك يبقى العامل الأول أهم العوامل الثلاثة وأكثرها فعالية في منع الشاعر من الإقدام على الزواج إذا كسبب
حسي. ولكن إن نظرنا إلى طريقة تفكير و نظرية متبنَّاة كانت تملأ رأسه فإن السبب الفعال هو الثالث ( فلسفته العامة )
والتي اتضحت و بشدة في ديوانه " اللزوميات " والذي نظمه في المرحلة الثانية من حياته ( مرحلة العزلة ).
هل هو عدو للمرأة ؟!
يوقعنا تناقض المعري ما بين حبه لأمه واحترامه الشديد لها وامتنانه لرعايتها له , وبين كرهه الشديد للمرأة و نفوره
منها والتحذير منها , في حيرة تجعلنا نتساءل عن هذا التناقض والتضاد في التفكير .. هل هذه طبيعة الفلاسفة أن
يخرجوا بنظرية ما ليناقضوها بعد ذلك بأخرى ؟! أم أن المعري كان دقيقا في فلسفته إلى حد يورثنا العجب و الغرابة ؟!
لعلي أجد أن المعري لم يَكُنْ يُكِنُّ للمرأة مشاعر خالصة من كره أو عداوة .. بل إن هجمته العنيفة لم تكن على
شخصها هي لمجرد كونها امرأة .. وإنما هي الهجمة الغيورة على حالتها التي سادت في الزمن الذي كان هو فيه
معها.. ولا أجدني مبالِغة إن قلت إنه كان يحب المرأة لدرجة أنه ضاق لحالها .. وطفق يكتب عنها عله يضع أمامها المرآة
لترى نفسها فتغير من وضعها.. أما مكانة أمه فكانت محفوظة عنده .. ولا أظنه كان يقذف أمه بما كان يقذف به
غيرها .. إلا أنه كان معمماً حالة الفساد متناسيا صلاحا لا بد موجود .. كما أن أمه ليست من ذلك العصر الذي كان يصور
المرأة فيه .. وربما هذا التعميم الذي وقع فيه المعري كان لازمة من لوازم هذا الشاعر .. إذ كان يرى الأمور في كل
أحوالها أعظم مما هي فيه في الحقيقة .. ربما لأن الفلسفة ريشته التي يمسكها .. أو لأنه كان متشائما حقا حد أنه
نسي أن يرصد الخير والصلاح .. ولم يعد يرى فيما حوله إلا السواد والظلمة .. مدَّعيا أنه بعزلته وشعره وفلسفته
يكتب ما يعين البشر على الخروج من مدارات العمي والضلال ..
وفاته
توفي بمسقط راسه (معرّة النعمان) سنة 446 للهجره الموافق 1057م، وقد وقف على قبره أربعة وثمانون شاعراً يرثونة.
م ن ق و ل
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري (363 -449هـ)،
(973 -1057 م) ، شاعر وفيلسوف وأديب سوري . لقب بـ "رهين المحبسين" بعد أن اعتزل الناس لبعض الوقت
رهين المحبسين كتب كثيرا ولم يبق سوى القليل.] - جريدة الشرق الأوسط - تاريخ النشر 19 يوليو-2006 - تاريخ
الوصول 25 أكتوبر-2008
ولد في مدينة المعرة ( معرة النعمان ) في سوريا ، ونشأ في بيت علم ووجاهة ، وأصيب في الرابعة من عمره
بالجدري فكفّ بصره ، وكان نحيف الجسم .نبغ في الشعر والتفسير والفلسفة.
عبقرية المعري
درس علوم اللغة والأدب والحديث والتفسير والفقه والشعر على نفر من أهله، وفيهم القضاة والفقهاء والشعراء،
وقرأ النحو في حلب على أصحاب ابن خالويه ويدل شعره ونثره على أنه كان عالما بالأديان والمذاهب وفي عقائد
الفرق، وكان آية في معرفة التاريخ والأخبار. وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة .
كان على جانب عظيم من الذكاء والفهم وحدة الذهن والحفظ وتوقد الخاطر. وسافر في أواخر سنة 398 هـ، إلى بغداد
فزار دور كتبها وقابله علمائها . وعاد إلى معرة النعمان سنة 400 هـ، وشرع في التأليف والتصنيف ملازما بيته وكان
كاتبه أسمه علي بن عبد الله بن أبي هاشم .
عاش المعري بعد أعتزاله زاهدا في الدنيا، معرضا عن لذاتها، لا يأكل لحم الحيوان حتى قيل أنه لم ياكل اللحم 45 سنة،
ولا ما ينتجه من سمن ولبن أو بيض وعسل، ولا يلبس من الثياب إلا الخشن. ويعتبر المعري من الحكماء والنقاد.
وتوفي المعري عن 86 عاما ودفن في منزله بمعرة النعمان. ولما مات وقف على قبره 84 شاعراً يرثونه.
عقيدته
وقد أثارت عبقرية المعري حسد الحاسدين فمنهم من زعم أنه قرمطي، ومنهم من زعم أنه درزي وآخرون قالوا إنه
ملحد ورووا أشعارا أصطنعوا بعضها وأساؤوا تأويل البعض الآخر، غير أن من الأدباء والعلماء من وقفوا على حقيقة
عقيدته وأثبتوا أن ما قيل من شعر يدل على إلحاده وطعنه في الديانات إنما دس عليه وألحق بديوانه. وممن وقف على
صدق نيته وسلامة عقيدته الصاحب كمال الدين ابن العديم المتوفي سنة 660 هـ، وأحد أعلام عصره، فقد ألّف كتابا
أسماه العدل والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري وفيه يقول عن حساد أبي العلاء " فمنهم من
وضع على لسانه أقوال الملاحدة، ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده، فجعلوا محاسنه عيوبا
وحسناته ذنوبا وعقله حمقا وزهده فسقا، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين والإسلام، وحرفوا كلامه عن
مواضعه وأوقعوه في غير مواقعه . و كان يحرم ايلام الحيوان ولذلك لم يأكل اللحم خمساً وأربعين سنة رفقا منه بالحيوان.
تلاميذه
درس على أبي العلاء كثير من طلاب العلم ممن علا شأنهم في العلم والأدب ، ومنهم :
أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي .
أبو الخطاب العلاء بن حزم الأندلسي.
أبو الطاهر محمد بن أبي الصقر الأنباري.
أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي.
فلم نجد أحد منهم إلا مثنيا على علم المعري وفضله، ومعجبا بشدة فطنته وقوة حافظته، ومعترفا بحسن عقيدته
وصدق إيمانه. وقد شهد جميع شعراء عصره بفطنته وحكمته وعلمه، وعندما توفي المعري ودفن في مدينته معرة
النعمان أجتمع حشد كبير من الشعراء والادباء في تكريمه .
من مؤلفاته
نماذج من شعره
غير مجد في ملتي وإعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي
أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد
ربّ لحد قد صار لحدا مرارا ضاحك من تزاحم الأضداد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
سر إن استطعت رويدا لا إختيالا على رفات العباد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
ديوانه
وهو على ثلاثة أقسام: 1-( لزوم ما لا يلزم ) ويعرف باللزوميات. 2-سقط الزند. 3- ضوء السقط. ويعرف بالدرعيات
وقد ترجم كثير من شعره إلى غير العربية. وقال ابن خلكان: ولكثير من الباحثين تصانيف في آراء المعري وفلسفته.
كتبه
أما كتبه فكثيرة وفهرسها في معجم الأدباء:
الأيك والغصون في الأدب يربو على مائة جزء .
تاج الحرة في النساء وأخلاقهن وعظاتهن ، وهو أربع مائة كراس .
عبث الوليد ، شرح به ونقد ديوان البحتري .
رسالة الغفران
ديوان سقط الزند
رسالة الصاهل والشاحج
رسالة الملائكة
رسالة الهناء
رسالة الفصول والغايات
معجزة احمد (يعني احمد بن الحسين المتنبي)
ولقد ألف العديد من معاصريه، ومن بعدهم كتباً ودراسات حول آراء المعرّي وفلسفته، مثل :
((أوج النحري عن حيثية أبي العلاء المعري ))، ليوسف البديعي،
و((مع ابي العلاء المعري))، لطه حسين،
و((رجعة أبي العلاء ))ل عباس محمود العقاد، وغيرهم كثير.
المرأة عند أبي العلاء المعري
احتلت المرأة من الشعر صدوره وأعجُزَه , تغنى بها الشعراء وتفننوا في وصفها , حتى أخذت من الشعر جزءاً غير يسير.
ورغم أن هذا هو الأصل الذي يكشف عن نظرةٍ محمودةٍ لها, إلا أن غرض الغزل تأرجح بين العذري المقبول,
والحسي المبتذل في الشعر. ولعل الريشة الراسمة لهذه الملامح التي شكَّلت وجه القصيدة – في أي عصر من
العصور – هي ريشة أوجدها ذلك العصر, فرضتْ على القصيدة الألوان والخطوط لتخرجها مطابِقَةً لحالة المجتمع
السائدة. فالمرأة في الشعر الجاهلي ليست المرأة في الشعر الأموي أو العباسي, فلا المكانة التي تتبوؤها هي
نفسها , ولا حالتها في مجتمعها هي ذاتها .. وإن كانت تفرض حضورها على الشعر , فإنها تفرضه بالشكل الذي
يختاره لها عصرها ويختاره الشاعر نفسه لها. وبالنظر إلى وضع المرأة في عصر بني العباس , وأي أثر كانت تتركه,
وأي فساد كانت غارقة في وحله, تتباين آراء الشعراء حولها, فلم تعد المرأة تقتصر على تلك الممدوحة الجميلة والتي
تشبه القمر في الضياء والشمس في الإشراق, بل تعدَّته كل التعدي. فلن نعجب كثيرا إن خَلَتْ قصيدة من القصائد
من ذكرها الذِّكر الحسن الذي يُجِلُّها ويرفعها مكانة سامية, ولن نعجب أبداً إن صار ذكرها مرافقاً للَّهو والشرب والانحلال
الأخلاقي , لتصبح المرأة هي الغواية والفساد متشكِّلة في قينة فاسقةٍ أو جاريةٍ لعوب , أو راهبةٍ من راهبات الأديرة.
عاش المعري في العصر العباسي – القرن الخامس الهجري – ضريراً لا يُبصر الحال ببصَرِهِ , لكنه أبصر الشناعة
والبشاعة كلها بعين بصيرته , فآثر أن ينأى بعيداً عن المرأة , وعن الوحل الذي لطَّخت نفسها بطينه. وربما لتفصيلي
في قضية المرأة عند المعري أوجه عدة سأتطرق فيها إلى تساؤلات تكون بدايات الخيوط التي سأمسك أطرافها لأصل
إلى صورة جليَّة لها للمرأة عنده.
أسئله تليها الأجوبه
• من هي المرأة الأولى في حياة أبي العلاء المعري ؟!
• واقع شعره وما ينطق به في شأن المرأة , هل هو الحاجة إليها , أم الإحجام عنها ؟.!
• موقفه من المرأة عامة ؟!
• هل كانت مظهراً من مظاهر التشاؤم عنده ؟!
• هل لعزوفه عن الزواج علاقة بنظرته القاتمة عن المرأة ؟!
المرأة الأولى في حياة الشاعر المعري :
كانت أم الشاعر صاحبة الأثر الأكبر في حياته , ومن المؤسف حقا أن نجد المؤرخين الذين أرَّخوا لحياة هذا الشاعر قد
أهملوا تلك الأم التي كان لها أكبر الأثر في حياة ابنها , فلم يذكروا عنها إلا النزر اليسير , و ربما كان ذلك راجعا إلى
أهمية الرجل في المجتمع آنذاك أكثر من المرأة. و حتى شاعرنا نفسه أهمل التحدث عنها في الشطر الأول من
حياته , ولكنه عاد وأكثر من ذكرها بعد رحيله إلى بغداد , أي بعد وفاتها , وظلَّ يذكرها حتى قضى نحبه.
والمُطَّلِعُ على شعر المعري يلحظ أنه يكنِّ عاطفة لأمه أقوى بكثير من عاطفته لأبيه , ولا نعلم سبباً لذلك إلا أنه يلوح
لنا أن الأم كانت الأقرب إلى الشاعر الضرير الذي يحس بحاجة ماسَّةٍ إلى معين يساعده ويشاركه ويأخذ بيده ويقيله من
عثراته ( إذ إنه عندما كان في الرابعة من عمره أصيب بالجدري , ولم يُشف من هذه العلة إلا بعد أن شوهت وجهه
بندوب لا شفاء منها , وذهبت ببصره مسدلةً بذلك حجاباً كثيفاً لا سبيل إلى اختراقه بينه وبين دنيا الناس ) وكان ذلك
المعين هو تلك الأم التي لم تكن لتبخل على ولدها بكل ما يريد , وقد عبَّر الشاعر عن مشقة الأم وآلامها حينما قال :
العيش ماضٍ فأكرم والديك به
والأم أولى بإكرام وإحسانِ
وحسبها الحمل والإرضاع تدفعه
أمران بالفضل نالا كل إحسانِ
موقفه من المرأة خاصة :
يقول الدكتور عفيف عبد الرحمن : " الواقع الذي ينطق به شعره أنه كان يتحرق شوقاً إلى الجنس الآخر , سواء اعتبرنا
أشعاره معاناة حقيقية أم هي من مخزون اللاشعور , وإذا كان هذا هو الواقع فلِمَ أحجم عن الاتصال بالمرأة والاقتران
بها مع أن الكثيرين ممن هم في مثل مصابه كبشار بن برد مثلا تزوجوا وتمتعوا رغم فقد بصرهم ؟!
لا بد إذن أن يكون في مزاج الشاعر ونفسيته ما يمنعه من الزواج والاتصال بعالم المرأة ومعاناة التجربة معاناة حقيقية .
إما أن تكون حساسية الشاعر وحياؤه حالا دون أن يفرض نفسه على شريكة حياة له يكون هو عبئا ثقيلاً عليها , وإما
أنه أصابه منها أذى فمنعه كبرياؤه من ذكر هذا الأذى , وإما أن يكون قد أدرك أن الحاجة للمرأة هي المعاناة في هذه
الحياة وهذا ما حققته له أمه , وعندما ماتت أمه كانت قد تقدمت به السن .
وإما أن يكون قد رأى أن هناك تعارضا بين طموحه وأسفاره وبين الزواج , ولعل سببا بعيداً وهو أن الشاعر قد يكون ذا
مذهبٍ فلسفيٍّ يُحرِّم الزواج , واقتنع بعقمه وجعله يصرِّح بعدم رغبته في تكرار المأساة :
هذا جناه أبي عليَّ
وما جنيتُ على أحد
فالمعري كان نتيجة خطأ والده ولن يقع هو في نفس الخطأ . وفي امتناعه عن الزواج ما يجعلنا " نرى جانباً من تشاؤمه
الأسود الذي ضرب ظلماته على حياته وجميع أفكاره (2) وقد هاجم فكرة الزواج والنسل في شعره كثيرا :
فليت حواء عقيما غدت
لا تلد الناس ولا تحبل (1)
موقفه من المرأة عامة :
ولعلنا نزداد عجباً حين نعرض لموقفين متناقضين للمعري , أولهما موقفه من أمه خاصة , والثاني موقفه من المرأة
عامة والذي يتلخص في أن المرأة مصدر كل شر , ولعله كان يُصدر رأيه عن المرأة عامة وبالنظر إلى وضع المرأة في
عصره وأثرها وفسادها , وخلاصة رأيه فيها :
أشْدُدْ يدَيْكَ بما أقـولُ، فقَولُ بعضِ النّاسِ دُرُّ
لا تَدنُوَنّ مِنَ النّسـاءِ، فإنّ غِبّ الأرْيِ مُرّ
والباءُ مثلُ البَاء، تَخــفِضُ للدّناءَةِ أوْ تَجُرّ
سَلِّ الفؤادَ عن الـحَياةِ، فإنّها شَــرٌّ وشُرّ
قدْ نلتَ منها ما كَفاكَ، فما ظفِرْتَ بما يَسُرّ
صَدَفَ الطّبيبُ عن الطّعامِ، وقال: مأكلُهُ يَضُرّ
وربما كان لما يسمعه عن فساد المرأة نتيجة الاختلاط أثر في إبعاده عن التفكير في أمر الاقتران بها ,
إذْ كيف يتسنى له ملازمتها ومراقبتها ومجاراتها في المجتمع وهو الشاعر الضرير .
ومن يدري فلعلهن كن ينفرن منه :
ولا يدنين من رجل ضريرٍ
يلقنهن آيا محكمات
وهو ينكر عليهن حتى تعبدهن , فتعبدهن للغواية أيضاً :
وليس عكوفهن على المصلَّى ...... أماناً عن غوارٍ مجرمات
و قد بلغ به الأمر حداً جعله ينهى عن تعليمهن :
سهامُ إن عرفن كتاب لسنٍ ...... رجعن بما يسوءُ مسمَّمَاتِ
وقد غالى المعري في وصف فسادهن وسوء الظن بهن :
إذا بلغ الوليد لديك عشراً ...... فلا يدخل على الحرم الوليدُ
ألا إن النساء حبال غيٍّ ...... بهن يُضَيَّعُ الشرف التليدُ
عزوفه عن الزواج :
ونرجح أن آراء المعري في المرأة والزواج والنسل تؤكد وجود عقدة الشك عند المعري في المرأة ,
وعلى وجه التحديد في امرأة عصره . وإذا كان يشك فيها من جميع الوجوه فكيف يقترن بها !؟
وكيف يُسلم أمره إليها وهو الرجل الضرير ؟!
ولئن حرَّم الشاعر على نفسه الزواج لظروفه الخاصة فإنه لم يحرِّمه على غيره , لكنه اشترط شروطا معينة .
وهو لا يستقرُّ على رأي بالنسبة للزواج , فهو ينصح الفتى بعدم الزواج , وينصح الفتاة بالزواج :
واطلب لبنتك زوجا كي يراعيها .... وخوِّف ابنك من نسلٍ و تزويج
فكيف يتم هذا ؟!
ونراه يتراجع عن رأيه في وجوب عقم المرأة فيرى أنه لا بأس من وجود أولاد شريطة توفر الخير فيهم :
خير النساء اللواتي لا يلدن لكم .... فإن ولدن فخير النسل ما نفعا
وأكثر النسل يشقى الوالدان به .... فليته كان عن آبائه دفعا
و قد اختلط عليه الأمر فأصبحت العفيفة في نظره كالعاهرة :
ولقد تشابه في الظواهر مولد ..... حِلُّ النكاح ومولد بعهار
وأنكر الطهر في هذا العالم وبخاصة بين النساء :
أ يوجد في الورى نفر طهارى ...... أم الأقوام كلهم رجوس
بنات العم تأباها النصارى ...... وبالأخوات أعرست المجوس
وذهب بعضهم (3) إلى أن المعري رأى الشقاء يأتي من النسل, فلسفياً فيما يتعلق بالمنسول, واجتماعياً فيما يتعلق
بالناسل, أما المنسول فإن والده سيأتي به إلى دار شقاء وعذاب. و أما الناسل فيلقى العذاب والشقاء من أولاده
أنفسهم ويسبب أولاده أذى في جسمه وفي ماله وفي جاهه.
والآن وبعد كل الذي عرضت أستطيع أن أرد سبب عزوفه عن الزواج إلى عوامل ثلاثة :
أولها, ظرفه الخاص وفقد بصره.
وثانيها, وضع المرأة في ذلك العصر و اتضاح تلك الصور عنده مما جعله ينفر منها.
و ثالثها, فلسفته العامة عن الحياة
والموت والكون وتأصل طبيعة الشر ورغبته في وضع حد لتلك الحياة الفاسدة بمنع النسل,
والمرأة مكون أساسي للمجتمع.
ومع ذلك يبقى العامل الأول أهم العوامل الثلاثة وأكثرها فعالية في منع الشاعر من الإقدام على الزواج إذا كسبب
حسي. ولكن إن نظرنا إلى طريقة تفكير و نظرية متبنَّاة كانت تملأ رأسه فإن السبب الفعال هو الثالث ( فلسفته العامة )
والتي اتضحت و بشدة في ديوانه " اللزوميات " والذي نظمه في المرحلة الثانية من حياته ( مرحلة العزلة ).
هل هو عدو للمرأة ؟!
يوقعنا تناقض المعري ما بين حبه لأمه واحترامه الشديد لها وامتنانه لرعايتها له , وبين كرهه الشديد للمرأة و نفوره
منها والتحذير منها , في حيرة تجعلنا نتساءل عن هذا التناقض والتضاد في التفكير .. هل هذه طبيعة الفلاسفة أن
يخرجوا بنظرية ما ليناقضوها بعد ذلك بأخرى ؟! أم أن المعري كان دقيقا في فلسفته إلى حد يورثنا العجب و الغرابة ؟!
لعلي أجد أن المعري لم يَكُنْ يُكِنُّ للمرأة مشاعر خالصة من كره أو عداوة .. بل إن هجمته العنيفة لم تكن على
شخصها هي لمجرد كونها امرأة .. وإنما هي الهجمة الغيورة على حالتها التي سادت في الزمن الذي كان هو فيه
معها.. ولا أجدني مبالِغة إن قلت إنه كان يحب المرأة لدرجة أنه ضاق لحالها .. وطفق يكتب عنها عله يضع أمامها المرآة
لترى نفسها فتغير من وضعها.. أما مكانة أمه فكانت محفوظة عنده .. ولا أظنه كان يقذف أمه بما كان يقذف به
غيرها .. إلا أنه كان معمماً حالة الفساد متناسيا صلاحا لا بد موجود .. كما أن أمه ليست من ذلك العصر الذي كان يصور
المرأة فيه .. وربما هذا التعميم الذي وقع فيه المعري كان لازمة من لوازم هذا الشاعر .. إذ كان يرى الأمور في كل
أحوالها أعظم مما هي فيه في الحقيقة .. ربما لأن الفلسفة ريشته التي يمسكها .. أو لأنه كان متشائما حقا حد أنه
نسي أن يرصد الخير والصلاح .. ولم يعد يرى فيما حوله إلا السواد والظلمة .. مدَّعيا أنه بعزلته وشعره وفلسفته
يكتب ما يعين البشر على الخروج من مدارات العمي والضلال ..
وفاته
توفي بمسقط راسه (معرّة النعمان) سنة 446 للهجره الموافق 1057م، وقد وقف على قبره أربعة وثمانون شاعراً يرثونة.
م ن ق و ل