بقلم : أحمد صبحى منصور
أولا :
يقسم المؤرخون العرب إلى قسمين عظيمين :
1.العرب البائدة الذين انقرضوا ولا نعرف عنهم شيئا إلا من خلال القرآن والشعر الجاهلي مثل عاد وثمود.2 العرب الباقية وهم الذين سكنوا الجزيرة العربية وأدركوا الإسلام وباسمه قاموا بالفتوحات .وأولئك العرب الباقية ينقسمون إلي قسمين :
2.القحطانيون أو عرب اليمن أو العرب العاربة ، وقد أقاموا لهم عدة ممالك في اليمن أشهرها معين وسبأ وحمير ثم هاجروا بعد انهيار سد مآرب فأقام بعضهم ممالك في جنوب الشام والعراق وبعضهم استوطن يثرب وكان من أبنائهم الأنصار.
3. العرب المستعربة، الذين ينتمون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام ، والذين جاء منهم خاتم النبيين عليهم السلام . وجد العرب المستعربة هو عدنان الذي ينتهي نسبه إلى إسماعيل . ونزار هو حفيد عدنان . وله ثلاثة أبناء إياد ومضر وربيعة ، ولكل منهم تنتمي مجموعة من القبائل ، وأهم القبائل التي تنتمي إلى مضر : قبائل قيس وتميم وقريش .
وأهم القبائل التي تنتمي إلي ربيعة : قبائل تغلب وبكر وأسد. وهذه القبائل جميعها هي التي حملت الإسلام للشام والعراق، وهناك التقت بقبائل قحطانية أهمها قبائل كلب .. ثم تعاونت كل القبائل في نشر الفتوحات الإسلامية مابين الهند شرقا إلى جنوب فرنسا غربا. وفي البلاد التي فتحها العرب حافظوا على أنسابهم التي توارثونها عبر أجيال وقرون من العصر الجاهلي، وعندما بدأ التدوين في العصر العباسي سجلوا تلك الأنساب كما فعل ابن الكلبي وغيره، وكانوا ينقلونها من أفواه الناس ومما يحفظون ، وجاء ابن حزم في كتابه " جمهرة أنساب العرب " فسجل صورة منقحة للأنساب العربية.
ثانيا
ومع ذلك فإن جمع الأنساب وتدوينها جهد بشري لا بد أن يلحقه القصور الإنساني مما يؤثر بدوره على وجود خلط بين الأنساب خصوصا أن هناك فترة زمنية بعيدة بين تداول الأنساب شفهيا وبين تسجيلها كتابيا وتحريرها ، كما أن هناك اختلافا ثقافيا بين القبائل العربية في الجزيرة العربية وتخوم الشام والعراق في العصر الجاهلي وبين توزيعاتها فيما بين أواسط آسيا والأندلس حين تمت كتابة تلك الأنساب في منتصف العصر العباسي . هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى جاءت ببعض الخلط ..
فقد كان هناك تسابق بين العرب على الشرف والمفاخر والمناقب، كانت القبائل اليمنية القحطانية تفخر بحضارتها قبل الإسلام فجاء الإسلام بنبي من قريش المضرية ، وأرادت القبائل القحطانية أن تعيد التوازن لصالحهم فأخذ رواتهم يلونون القديم بأساطير عن ملوكهم وفتوحاتهم في الهند والصين ، ثم ادعوا إن قحطان هو هود عليه السلام ، وبعضهم جعل إسماعيل والد العرب جميعا من قحطانيين وعدنانيين ، وكان لذلك تأثيره في إرساء نوع من الشك على الأنساب العربية القديمة .
واختلط العرب بالأعاجم في مناطق التخوم بينما كان العرب في داخل الجزيرة العربية أصرح نسبا لأنهم نجوا من الاختلاط بغيرهم . لذلك كانت أنساب مضر وثقيف وأسد وهزيل وخزاعة أكثر نقاء من العرب الذين سكنوا التلال الخصبة والوديان وأقاموا مدنا اختلطوا فيها بغيرهم مثل لخم وجذام وغسان وطيء وقضاعة وزياد ، ونتج عن هذا الاختلاط تداخل الشعوب الأخرى بهم وحدوث خلط آخر في الأنساب ، ونظير ذلك ما حدث من اختلاط بين القبائل القحطانية والقبائل العدنانية في بعض المناطق بعد انهيار سد مآرب . وأدى إلي تداخل بين بطون تلك القبائل وأوجد مشاكل لدى علماء الأنساب في العصر العباسي خصوصا مع تباعد الزمن بين التسجيل للأنساب وحدوث ذلك التداخل بين القبائل.
وللتحالفات أثرها أيضا .. فقد تتحالف القبيلة مع قبيلة أخرى أو عدة قبائل للإغارة أو لرد العدوان ، وتمر الأجيال وتنسى القبائل المتحدة أصولها وتنضم تحت اسم واحد هو اسم القبيلة القوية ، ثم قد يزعمون بعدها أنهم من أب واحد كما يذكر صاحب الأغاني.
والدخلاء أيضا : فإذا كانت التحالفات ذات طابع قبلي فقد عرف العرب نظاما آخر فرديا هو نظام الدخلاء بالقرابة أو بالحلف أو بالولاء ، وهؤلاء كانوا بمضي الزمن يندمجون في القبيلة وينسون أصولهم الأولى ، ومع انه حدث فردي لشخص واحد إلا أنه كان نظاما عاما تأخذ به كل القبائل ، ثم إن هؤلاء الأفراد ما لبثوا أن كونوا لأنفسهم أسرات وبيوتا تداخلت في أصل القبيلة وبذلك يتناسى الناس النسب الأول بطول الزمان ويندثر أهل العلم به فيخفي أمره وهكذا تتساقط الأنساب من شعب إلى شعب ، ويلتحم قوم بقوم آخرين ، ويحدث الاختلاف بين علماء الأنساب فيما بعد في نسب هذا وذاك ، وقد اختلفوا في نسب آل المنذر.وقد حدث أن ولي عمر بن الخطاب واليا على بجيلة هو عرفجة بن هرثمة ، على أنه منهم فقالوا " هو فينا لزيق " أي دخيل لصيق ، واعترف عرفجة بهذا فقال : إنه رجل من الأزد عليه ثأر في قومه فتركهم ودخل في بجيلة فأصبح منهم ملتحقا بهم ولكن ليس منهم بالنسب . ولولا تولية عمر له واحتجاج بجيلة على ذلك لظل أمره خافيا ، ومرت الأيام وأصبح بيته فيما بعد يعد من أصول قبيلة بجيلة .
ومن ذلك أيضا الشك في نسب الوالي الأموي خالد القسري ، فالكلبي عالم الأنساب يقول : أول كذبة كذبتها في النسب أن خالد القسري سألني عن جدته أم كرز فقلت هي زينب بنت عرعرة ابن هزيمة بن نصر بن قعين ، فسر بذلك خالد وكافأ ابن الكلبي ، وحضر خالد القسري مجلس الخليفة عبد الملك بن مروان فاتهموا خالد القسري بأنه ليس من قسر وإنما هو عبد آبق هارب ، وقال خالد القسري لابن منظور الأسدي : يا أبا الصباح قد ولدتمونا ، فقال له : ما أعرف فينا ولادة لكم وأن هذا لكذب، فقيل له : لو أقررت للأمير بولادة ما ضرك. قال : أأفسد واستنبط ما ليس مني وأقر بالكذب علي قومي؟ .
وفي محادثة بين المغيرة ابن شعبة وهند بنت النعمان أخبرته أن أباها النعمان بن المنذر قضى لثقيف أنها تتبع قبائل إياد وليست تتبع بكر بن هوازن وقال :
إن " ثقيف " لم تكن " هوازن " .. ولم تناسب عامرا ومازنا .
هذا مع أن المشهور أن " ثقيف " تنتمي لبكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة ابن خصفة بن قيس عيلان !!
وقد يكون اختلاف النسب منشأه تشابك القبائل بأسماء لفظا واختلافها معنى ، وهذا كثير في الأنساب ، وفي معاجم القبائل عدة قبائل باسم واحد بعضها ينتمي إلي قحطان والآخر إلي عدنان، وفيها بطون من هذه وتلك ؛ فبنو الأوس بطن من الأزد القحطانية وبنو الأوس بطن من العدنانية ، وقد تتشابه أسماء القبائل صورة وتختلف معنى ولفظا ، مثل " جساس " بالسين المشددة و " جساس" بسين مخففة ، وهذه الاختلافات جاءت باللبس في الأنساب بعد التدوين الأول لابن الكلبي وغيره.
وهناك عامل خطير عنوانه (الأشراف ) أو الزعم بالانتساب الى نسل النبى محمد عليه السلام ، وهو باب عريض فى الانتحال ، كان ولا يزال شعارا للجاه الاجتماعى أو الاستغلال السياسى ـ أو المكانة الدينية لدى الطوائف الشيعية و الفرق الصوفية ، والعرب المقيمين فى الشرق الآسيوى المسلم . ومن الشائع وجود شجرة نسب لهذا وذاك ، ثم انتحل آخرون النسب لبيت ابى بكر أو عمر أو عثمان ، والتحقوا بقائمة الشرف وتنشر هذا فى العصر العثمانى مع تسيد التصوف وقتها. هذا علاوة على انتحال البيت الأموى فى الشام حيث شاع الاعتقاد بوجود السفيانى المنتظر مقابل (المهدى المنتظر ).
ثالثا : كتاب جمهرة أنساب العرب لابن حزم فى لمحة نقدية
وكتاب " جمهرة أنساب العرب " لابن حزم هو أوسع كتب النسب واحفلها وأدقها وأكثرها استيعابا، وفيه توسع في الإطلاع على الكثير من المصنفات السابقة في الأنساب والتراجم ، وهو يقدم صورة متكاملة مترابطة بمثابة وثيقة مهمة ، وقد اعتمد عليه الكثير من المؤرخين ، واعترف بذلك ابن خلدون صراحة . ومع ذلك فإن النظرة المتفحصة في " جمهرة أنساب العرب " تظهر كثيرا من الاختلاف في شجرة الأنساب ونأخذ على ذلك بعض الأمثلة :
فقد أورد الاختلافات في نسب قحطان ، ونفي أن يكون من ولد إسماعيل أو من ولد هود، ولم يأخذ برواية التوراة التي تجعله من ولد عابر بن سالخ بن ارفخشذ بن سام . واختلف في نسب قضاعة هل هو من ولد عدنان أو من ولد قحطان هذا مع أن الشائع في العصر الأموي أن قبيلة كلب قحطانية، وكلب من قبائل قضاعة ، إذن قضاعة قحطانية ، ولكن ابن حزم لا يؤكد ذلك ولا ينفيه. والذي يؤكده ابن حزم أنه ليس على ظهر الأرض من يصل نسبه إلى إسماعيل بصلة قاطعة.
ويناقض ابن حزم نفسه حين يتحدث عن نسب خزاعة .. فيذكر ويؤكد أن خزاعة من ولد قمعة بن إلياس بن نصر " ص10، 234، 235" ، ثم يذكر ص 231 عن ولد عمرو مزيقيا قوله " وقيل من ولده خزاعة " أي يتشكك ، ويرى أن خزاعة مضرية في الرأي الراجح ، وفي الرأي المرجوع أنها قحطانية .. هذا مع أن الشائع في العصر الأموي – عصر التفاخر بالأنساب – أن خزاعة قحطانية ، فقد ثار دعبل الخزاعي على الكميت بن زيد الأسدي حين افتخر بمضر وفضلها على القحطانيين ، فقام دعبل الخزاعي ورد عليه بقصيدة مشهورة يتعصب فيها لقومه من القحطانيين ، أي يعتبر قومه خزاعة من قحطان.
ويحتار ابن حزم في نسب أفصى ، هل هو أفصي بن عامر بن قمعة بن إلياس بن مضر أم هو أفصي بن حارثة بن عمر ومزيقياء بن عامر الأزدي القحطاني فجعله مرة من مضر ومرة من قحطان .
واشتمل كتاب (جمهرة أنساب العرب ) على كلمة تؤيد كثرة الاختلاط في الأنساب الجاهلية ، وهى كلمة فلان " دخل " بنوه في فلان . ولكثرة تواردها لا داعي لحصرها . وبذلك يظهر أن الاختلاف في النسب الجاهلي لم يقتصر على النسب الأدنى وإنما شمل النسب الأعلى وأصل القبائل مما يدفع للقول إنه مع اهتمام العرب بحفظ أنسابهم وتدوينها فيما بعد فإن الشك متأصل في صحة بعض هذه الأنساب وهذا أمر منطقي في الحياة البشرية .
خاتمة
ومع ذلك تبقى الأنساب العربية في مجملها صورة متفردة لا مثيل لها بين الجماعات والأمم الإنسانية الأخرى . فليس مثل العرب أمة حافظت على أنسابها بمثل هذه الدقة ، وليس مثل العرب أمة تمسكت بهذه الأنساب لمدة عدة قرون ونشرت العناية بها في العصور الوسطى مابين أواسط آسيا إلى جنوب أوروبا وغربها الأقصى .. لقد وصل غرام العرب بالأنساب إلي حفظ أنساب الخيول إلى أجيال كثيرة.. وإن كان هناك بعض اللبس وبعض الشك في فروع وجزئيات فإنها ترجع لضعف الإنسان ونقص معرفته ، وسبحان الذي خلق الإنسان ضعيفا.
أولا :
يقسم المؤرخون العرب إلى قسمين عظيمين :
1.العرب البائدة الذين انقرضوا ولا نعرف عنهم شيئا إلا من خلال القرآن والشعر الجاهلي مثل عاد وثمود.2 العرب الباقية وهم الذين سكنوا الجزيرة العربية وأدركوا الإسلام وباسمه قاموا بالفتوحات .وأولئك العرب الباقية ينقسمون إلي قسمين :
2.القحطانيون أو عرب اليمن أو العرب العاربة ، وقد أقاموا لهم عدة ممالك في اليمن أشهرها معين وسبأ وحمير ثم هاجروا بعد انهيار سد مآرب فأقام بعضهم ممالك في جنوب الشام والعراق وبعضهم استوطن يثرب وكان من أبنائهم الأنصار.
3. العرب المستعربة، الذين ينتمون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام ، والذين جاء منهم خاتم النبيين عليهم السلام . وجد العرب المستعربة هو عدنان الذي ينتهي نسبه إلى إسماعيل . ونزار هو حفيد عدنان . وله ثلاثة أبناء إياد ومضر وربيعة ، ولكل منهم تنتمي مجموعة من القبائل ، وأهم القبائل التي تنتمي إلى مضر : قبائل قيس وتميم وقريش .
وأهم القبائل التي تنتمي إلي ربيعة : قبائل تغلب وبكر وأسد. وهذه القبائل جميعها هي التي حملت الإسلام للشام والعراق، وهناك التقت بقبائل قحطانية أهمها قبائل كلب .. ثم تعاونت كل القبائل في نشر الفتوحات الإسلامية مابين الهند شرقا إلى جنوب فرنسا غربا. وفي البلاد التي فتحها العرب حافظوا على أنسابهم التي توارثونها عبر أجيال وقرون من العصر الجاهلي، وعندما بدأ التدوين في العصر العباسي سجلوا تلك الأنساب كما فعل ابن الكلبي وغيره، وكانوا ينقلونها من أفواه الناس ومما يحفظون ، وجاء ابن حزم في كتابه " جمهرة أنساب العرب " فسجل صورة منقحة للأنساب العربية.
ثانيا
ومع ذلك فإن جمع الأنساب وتدوينها جهد بشري لا بد أن يلحقه القصور الإنساني مما يؤثر بدوره على وجود خلط بين الأنساب خصوصا أن هناك فترة زمنية بعيدة بين تداول الأنساب شفهيا وبين تسجيلها كتابيا وتحريرها ، كما أن هناك اختلافا ثقافيا بين القبائل العربية في الجزيرة العربية وتخوم الشام والعراق في العصر الجاهلي وبين توزيعاتها فيما بين أواسط آسيا والأندلس حين تمت كتابة تلك الأنساب في منتصف العصر العباسي . هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى جاءت ببعض الخلط ..
فقد كان هناك تسابق بين العرب على الشرف والمفاخر والمناقب، كانت القبائل اليمنية القحطانية تفخر بحضارتها قبل الإسلام فجاء الإسلام بنبي من قريش المضرية ، وأرادت القبائل القحطانية أن تعيد التوازن لصالحهم فأخذ رواتهم يلونون القديم بأساطير عن ملوكهم وفتوحاتهم في الهند والصين ، ثم ادعوا إن قحطان هو هود عليه السلام ، وبعضهم جعل إسماعيل والد العرب جميعا من قحطانيين وعدنانيين ، وكان لذلك تأثيره في إرساء نوع من الشك على الأنساب العربية القديمة .
واختلط العرب بالأعاجم في مناطق التخوم بينما كان العرب في داخل الجزيرة العربية أصرح نسبا لأنهم نجوا من الاختلاط بغيرهم . لذلك كانت أنساب مضر وثقيف وأسد وهزيل وخزاعة أكثر نقاء من العرب الذين سكنوا التلال الخصبة والوديان وأقاموا مدنا اختلطوا فيها بغيرهم مثل لخم وجذام وغسان وطيء وقضاعة وزياد ، ونتج عن هذا الاختلاط تداخل الشعوب الأخرى بهم وحدوث خلط آخر في الأنساب ، ونظير ذلك ما حدث من اختلاط بين القبائل القحطانية والقبائل العدنانية في بعض المناطق بعد انهيار سد مآرب . وأدى إلي تداخل بين بطون تلك القبائل وأوجد مشاكل لدى علماء الأنساب في العصر العباسي خصوصا مع تباعد الزمن بين التسجيل للأنساب وحدوث ذلك التداخل بين القبائل.
وللتحالفات أثرها أيضا .. فقد تتحالف القبيلة مع قبيلة أخرى أو عدة قبائل للإغارة أو لرد العدوان ، وتمر الأجيال وتنسى القبائل المتحدة أصولها وتنضم تحت اسم واحد هو اسم القبيلة القوية ، ثم قد يزعمون بعدها أنهم من أب واحد كما يذكر صاحب الأغاني.
والدخلاء أيضا : فإذا كانت التحالفات ذات طابع قبلي فقد عرف العرب نظاما آخر فرديا هو نظام الدخلاء بالقرابة أو بالحلف أو بالولاء ، وهؤلاء كانوا بمضي الزمن يندمجون في القبيلة وينسون أصولهم الأولى ، ومع انه حدث فردي لشخص واحد إلا أنه كان نظاما عاما تأخذ به كل القبائل ، ثم إن هؤلاء الأفراد ما لبثوا أن كونوا لأنفسهم أسرات وبيوتا تداخلت في أصل القبيلة وبذلك يتناسى الناس النسب الأول بطول الزمان ويندثر أهل العلم به فيخفي أمره وهكذا تتساقط الأنساب من شعب إلى شعب ، ويلتحم قوم بقوم آخرين ، ويحدث الاختلاف بين علماء الأنساب فيما بعد في نسب هذا وذاك ، وقد اختلفوا في نسب آل المنذر.وقد حدث أن ولي عمر بن الخطاب واليا على بجيلة هو عرفجة بن هرثمة ، على أنه منهم فقالوا " هو فينا لزيق " أي دخيل لصيق ، واعترف عرفجة بهذا فقال : إنه رجل من الأزد عليه ثأر في قومه فتركهم ودخل في بجيلة فأصبح منهم ملتحقا بهم ولكن ليس منهم بالنسب . ولولا تولية عمر له واحتجاج بجيلة على ذلك لظل أمره خافيا ، ومرت الأيام وأصبح بيته فيما بعد يعد من أصول قبيلة بجيلة .
ومن ذلك أيضا الشك في نسب الوالي الأموي خالد القسري ، فالكلبي عالم الأنساب يقول : أول كذبة كذبتها في النسب أن خالد القسري سألني عن جدته أم كرز فقلت هي زينب بنت عرعرة ابن هزيمة بن نصر بن قعين ، فسر بذلك خالد وكافأ ابن الكلبي ، وحضر خالد القسري مجلس الخليفة عبد الملك بن مروان فاتهموا خالد القسري بأنه ليس من قسر وإنما هو عبد آبق هارب ، وقال خالد القسري لابن منظور الأسدي : يا أبا الصباح قد ولدتمونا ، فقال له : ما أعرف فينا ولادة لكم وأن هذا لكذب، فقيل له : لو أقررت للأمير بولادة ما ضرك. قال : أأفسد واستنبط ما ليس مني وأقر بالكذب علي قومي؟ .
وفي محادثة بين المغيرة ابن شعبة وهند بنت النعمان أخبرته أن أباها النعمان بن المنذر قضى لثقيف أنها تتبع قبائل إياد وليست تتبع بكر بن هوازن وقال :
إن " ثقيف " لم تكن " هوازن " .. ولم تناسب عامرا ومازنا .
هذا مع أن المشهور أن " ثقيف " تنتمي لبكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة ابن خصفة بن قيس عيلان !!
وقد يكون اختلاف النسب منشأه تشابك القبائل بأسماء لفظا واختلافها معنى ، وهذا كثير في الأنساب ، وفي معاجم القبائل عدة قبائل باسم واحد بعضها ينتمي إلي قحطان والآخر إلي عدنان، وفيها بطون من هذه وتلك ؛ فبنو الأوس بطن من الأزد القحطانية وبنو الأوس بطن من العدنانية ، وقد تتشابه أسماء القبائل صورة وتختلف معنى ولفظا ، مثل " جساس " بالسين المشددة و " جساس" بسين مخففة ، وهذه الاختلافات جاءت باللبس في الأنساب بعد التدوين الأول لابن الكلبي وغيره.
وهناك عامل خطير عنوانه (الأشراف ) أو الزعم بالانتساب الى نسل النبى محمد عليه السلام ، وهو باب عريض فى الانتحال ، كان ولا يزال شعارا للجاه الاجتماعى أو الاستغلال السياسى ـ أو المكانة الدينية لدى الطوائف الشيعية و الفرق الصوفية ، والعرب المقيمين فى الشرق الآسيوى المسلم . ومن الشائع وجود شجرة نسب لهذا وذاك ، ثم انتحل آخرون النسب لبيت ابى بكر أو عمر أو عثمان ، والتحقوا بقائمة الشرف وتنشر هذا فى العصر العثمانى مع تسيد التصوف وقتها. هذا علاوة على انتحال البيت الأموى فى الشام حيث شاع الاعتقاد بوجود السفيانى المنتظر مقابل (المهدى المنتظر ).
ثالثا : كتاب جمهرة أنساب العرب لابن حزم فى لمحة نقدية
وكتاب " جمهرة أنساب العرب " لابن حزم هو أوسع كتب النسب واحفلها وأدقها وأكثرها استيعابا، وفيه توسع في الإطلاع على الكثير من المصنفات السابقة في الأنساب والتراجم ، وهو يقدم صورة متكاملة مترابطة بمثابة وثيقة مهمة ، وقد اعتمد عليه الكثير من المؤرخين ، واعترف بذلك ابن خلدون صراحة . ومع ذلك فإن النظرة المتفحصة في " جمهرة أنساب العرب " تظهر كثيرا من الاختلاف في شجرة الأنساب ونأخذ على ذلك بعض الأمثلة :
فقد أورد الاختلافات في نسب قحطان ، ونفي أن يكون من ولد إسماعيل أو من ولد هود، ولم يأخذ برواية التوراة التي تجعله من ولد عابر بن سالخ بن ارفخشذ بن سام . واختلف في نسب قضاعة هل هو من ولد عدنان أو من ولد قحطان هذا مع أن الشائع في العصر الأموي أن قبيلة كلب قحطانية، وكلب من قبائل قضاعة ، إذن قضاعة قحطانية ، ولكن ابن حزم لا يؤكد ذلك ولا ينفيه. والذي يؤكده ابن حزم أنه ليس على ظهر الأرض من يصل نسبه إلى إسماعيل بصلة قاطعة.
ويناقض ابن حزم نفسه حين يتحدث عن نسب خزاعة .. فيذكر ويؤكد أن خزاعة من ولد قمعة بن إلياس بن نصر " ص10، 234، 235" ، ثم يذكر ص 231 عن ولد عمرو مزيقيا قوله " وقيل من ولده خزاعة " أي يتشكك ، ويرى أن خزاعة مضرية في الرأي الراجح ، وفي الرأي المرجوع أنها قحطانية .. هذا مع أن الشائع في العصر الأموي – عصر التفاخر بالأنساب – أن خزاعة قحطانية ، فقد ثار دعبل الخزاعي على الكميت بن زيد الأسدي حين افتخر بمضر وفضلها على القحطانيين ، فقام دعبل الخزاعي ورد عليه بقصيدة مشهورة يتعصب فيها لقومه من القحطانيين ، أي يعتبر قومه خزاعة من قحطان.
ويحتار ابن حزم في نسب أفصى ، هل هو أفصي بن عامر بن قمعة بن إلياس بن مضر أم هو أفصي بن حارثة بن عمر ومزيقياء بن عامر الأزدي القحطاني فجعله مرة من مضر ومرة من قحطان .
واشتمل كتاب (جمهرة أنساب العرب ) على كلمة تؤيد كثرة الاختلاط في الأنساب الجاهلية ، وهى كلمة فلان " دخل " بنوه في فلان . ولكثرة تواردها لا داعي لحصرها . وبذلك يظهر أن الاختلاف في النسب الجاهلي لم يقتصر على النسب الأدنى وإنما شمل النسب الأعلى وأصل القبائل مما يدفع للقول إنه مع اهتمام العرب بحفظ أنسابهم وتدوينها فيما بعد فإن الشك متأصل في صحة بعض هذه الأنساب وهذا أمر منطقي في الحياة البشرية .
خاتمة
ومع ذلك تبقى الأنساب العربية في مجملها صورة متفردة لا مثيل لها بين الجماعات والأمم الإنسانية الأخرى . فليس مثل العرب أمة حافظت على أنسابها بمثل هذه الدقة ، وليس مثل العرب أمة تمسكت بهذه الأنساب لمدة عدة قرون ونشرت العناية بها في العصور الوسطى مابين أواسط آسيا إلى جنوب أوروبا وغربها الأقصى .. لقد وصل غرام العرب بالأنساب إلي حفظ أنساب الخيول إلى أجيال كثيرة.. وإن كان هناك بعض اللبس وبعض الشك في فروع وجزئيات فإنها ترجع لضعف الإنسان ونقص معرفته ، وسبحان الذي خلق الإنسان ضعيفا.