وكان الأبرز تأثيرا بينها " النجف " التي أخذت منذ أوائل القرن العشرين تمارس تأثيرا دينيا وسياسيا هائلا يتخطى حدود العراق بكثير . واذ تقع النجف على بعد حوالي 120 كم جنوب بغداد, فانها أفلتت من السيطره الحكوميه الفعاله طيلة شطر كبير من العهد العثماني . وكانت في اغلب الاحيان مقر المجتهد الشيعي الاكبر, ويوجد فيها مرقد علي بن ابي طالب, واجتذابه الكثير من الزوار الشيعه .
واعتبرت مقبرة المدينه الكبيره ( وادي السلام ) أقدس وقمة مايتمناه المرء من الاماكن للدفن فيها بين المؤمنين الشيعه .
تغيرت حظوظ النجف كثيرا بمرور الزمن, وكان من أشد مشاكلها, شح المياه, وانكشافها للغزوات المتكرره من العشائر العربيه, مشكلتين من أشد المشاكل حده على امتداد تاريخ المدينه حتى القرن التاسع عشر .
ورغم اهتمام شاهات ايران وخاصه " طهماسب " بمشكلة المياه وشق قناه ثانيه للمدينه من الحله, لم تحل هذه المشكله . وهناك عريضه من مجهول موجهة الى السلطان العثماني في اواخر القرن السادس عشر يعرض المشكلتين ويقوا أنه لم يبقى في المدينه الا ثلاثون دار بينه خطيب الجمعه وسدنة الحضره وخدامها مع قله من الافراد الاخرين .
ولاحظ الرحاله البرتغالي " بيدرو تيكسيرا " الذي زار النجف في عام 1604 ان المدينه كانت خربه تقريبا , وكان عدد السكان 500 شخص تقريبا . ورغم القيام بشق عدة أقنيه فانها كانت تهمل وتجف, حتى 1802 حين أنجز شق القناة الهنديه . وبمعاهدة " أرضروم ", بعد الحرب الايرانيه – العثمانيه (1821 -1823 ) وتحسن العلاقات النسبي , تحسن وضع المدينه لتتحول منذ اربعينيات القرن التاسع عشر الى الى المركز الاكاديمي الشيعي الرئيسي على حساب كربلاء التي تناقصت أهميتها . كذلك ساهمت القناة الهنديه في الاتصالات الاقتصاديه – الاجتماعيه والدينيه بين النجف والعشائر المحيطه معجلة بتشيعها .
وعلى الرغم من ان عدد سكان النجف الشيعه لم يتجاوز الثلاثين الف نسمه, في اوائل القرن العشرين, فان تدفق الزوار كان يضاعف هذا العدد مرتين في أغلب الأحيان . ولم يشكل الفارسيون الا ثلث سكان, ويفسر موقع النجف على حافة الصحراء التأثيرات العشائريه القويه على المدينه . وقد وجدت سمات النجف هذه تجسيداتها في حقيقة أن عوائل عربيه هامه من العلماء في المدينه, نسبت أصولها الى عشائر مجاوره . وهكذا تكون عائلة " كاشف الغطاء " قد انحدرت من ال علي, احد فروع بني مالك التي تنتمي الى اتحاد المنتفق . والأكثر من ذلك أن النجف حتى عام 1918 كانت واقعه تحت نفوذ كتلتين عربيتين : الزغرت والشمرت وكان النجفيون يرجعون أصل تكوينهم الى العقد الاول من القرن التاسع عشر حيث كان المحاربون يجندون من بين سكان المدينه تحت قيادة المجتهد الشيخ جعفر كاشف الغطاء, لحماية المدينه من هجمات الوهابيين .
كان الزغرت متحالفين مع عائلة كاشف الغطاء, في حين ارتبطت الشمرت بالملالي الذين كانوا سدنة مرقد الامام علي منذ اوائل القرن السادس عشر, وانتزعت الكتلتين المدينه من سيطرة العثمانيين خلال الحرب العالميه الاولى وتقاسموا السيطره على أحيائها الأربعه, ففي حين ان السيد مهدي وحجي عطيه وكاظم صبي من الزغريتييت حكموا أحياء الحويش والعماره والبراق, فان حجي سعد الشمرتي تولى ادارة حي المشرق . وتبوأ الشيوخ الأربعه هذا المركز, حتى 1918 حين تحطمت سلطتهم على أيدي البريطانيين .
ويتضح طابع النجف العشائري من مضمون دستور " حيّ البراق " الذي وضع بعد ان تولى الشيوخ الأربعه ادارة المدينه في عام 1915 . وتحول ولاء ابناء العشائر التقليدي لعشيرتهم وشيخهم, في النجف الى ولاء متين يدين به سكان البراق الى حيّهم وشيخه كاظم صبّي . يضاف الى ذلك ان رابطة الدم والتشديد على الشرف والاشاره المتكرره الى ديّة القتيل بوصفها العنصر الذي ينبغي استخدامه في حل النزاعات كانت تبين مدى هيمنة الاعراف العشائريه على الروح المدنيه النجفيه حتى زمن متأخر هو القرن العشرين