تزامن ظهور ايران الشيعيه الصفويه 1501 م , مع توطد اركان الامبراطوريه العثمانيه السنيه ثم محاولات السلطان سليم الاول ( 1512 – 1520 ) وسليمان القانوني ( 1520 – 1566 ) لبناء دولتهما كامبراطوريه عالميه . وأوجد هذا واقعا جديدا في العراق الذي أصبح ساحة حرب بين القوتين المتنافستين . وعلى الرغم من ان العراق اصبح ولايه عثمانيه بعد احتلال بغداد في اواخر 1533م فان الحكم العثماني للبلاد كان حتى القرن التاسع عشر حكما اسميا ناقصا في غالب الاحيان . وحتى اقامة النظام الملكي العراقي في عام 1922م كان الصراع العثماني – الايراني , على السيطره السياسيه والدينيه والاقتصاديه قد أحال العراق الى منطقه حدوديه مؤثرا بذلك على تركيب المجتمع الشيعي وتنظيم الاسلام الشيعي في البلاد . هذه المرحله الزمنيه اشتملت على فترتين من الاحتلال الايراني ( 1508 – 1533 ) و ( 1622 – 1638 ) .
في نهاية القرن السادس عشر كان مجتمع العراق الشيعي عربيا على العموم . وعرّض ظهور ايران الصفويه سكان العراق الى مؤثرات شيعيه فارسيه (راجع تاريخ ظهور التشيع في ايران) . وكان تجار الفرس الشيعه قد جاءوا الى العراق لاول مره خلال فترتي الاحتلال الصفوي للبلاد , مستحوذين على قسم لا يستهان به من تجارة بغداد .
وفي اوائل القرن السابع عشر , لم يكن هناك فرس بعد في البصره التي كان سكانها يتالفون بالدرجه الرئيسيه من العرب والاتراك . وفي ذلك الوقت كان هناك بضعة الاف من الفرس في مدن مثل النجف وكربلاء والكاظمين وبغداد , ولكن الكثير منهم هربوا الى ايران بعد الاحتلال العثماني الثاني لبغداد 1638 . كانت الجاليه الفارسيه في عراق القرن السابع عشر تتالف في الغالب من التجار وأفراد آخرين جاءوا الى البلاد بحثا عن فرص أقتصاديه . ولم يكن هناك عدد كبير من الطلاب والعلماء الفرس في العراق , لأن المراكز الاكاديميه الشيعيه الرئيسيه كانت في ايران .
كان الاحتلال الأفغاني – السني لاصفهان في 1722 م , ومحاولات نادر شاه لتشجيع التقارب السني – الشيعي , ومصادرة الكثير من الاوقاف التي تدعم رجال الدين الشيعه في ايران , قد شردت المئات من عوائل العلماء الذين هرب الكثير منهم الى العراق ما بين ( 1722 – 1763 ) ( للمزيد عن نشوء التشيع في ايران اضغط هنا) . وانتقل مركز الدراسات الشيعيه من ايران الى , كربلاء ثم النجف . وانتشرت اللغه الفارسيه انتشارا واسعا في كربلاء والنجف وبغداد والبصره . ولمدة ثلاث سنوات كانت البصره تحت سيطرة الزند , بعد أن قام كريم خان زند , حاكم جنوب غرب ايران , باحتلال المدينه 1776 م . وطبق الصلاه على الطريقه الشيعيه ومواعظ الجمعه الشيعيه , وصك عملات تحمل اسماء الائمه الاثني عشر . واستغل العلماء الفرس الذين هاجروا الى العراق , انعدام الاستقرار بسبب صعود المماليك في عام 1747 م , وما تلا ذلك من حكم العراق حكما عثمانيا غير مباشر دام حتى عام1831م . ففي كربلاء والنجف تمكنت العوائل الفارسيه من ان تطغى على العلماء العرب , ونجحت في السيطره على الدوائر الدينيه . وانتهى الصراع بين العلماء " الاخباريين " التقليديين والعلماء " الاصوليين " العقلانيين حول منهجية الفقه الشيعي بانتصار " الاصوليين " , وكان الكثير منهم من الفرس , واحتلوا مواقعهم المرموقه داخل المؤسسه الدينيه الشيعيه في العراق بعد انتصارهم (حتى اليوم) . وبحلول منتصف القرن التاسع عشر كان العلماء الفرس يسيطرون على القسم الاعظم من الاموال الخيريه والمدارس الشيعيه مكتسبين بذلك سطوه عظيمه .
بدأ الهنود يستوطنون في مدن العتبات المقدسه منذ اواخر القرن الثامن عشر , وبظهور دولة " اوذه " الشيعيه في شمال الهند 1722م , والعلاقه مع مدن العتبات المقدسه , لم يكن سيل الهنود العارم قد أخذ بالتدفق على مدن العتبات المقدسه الا ابتداء من القرن التاسع عشر , بعد قيام البريطانيين بضم مملكة " اوذه " , وفي ذلك الوقت وصل عدة أثرياء من أفراد عائلة " النوّاب " الملكيه من اوذه الى مدن العتبات المقدسه . مما اجتذب هذا مزيدا من الهنود . وبتناقص ثروة وتقديمات ال النوّاب بمرور الزمن زاد وضع الهنود فقرا , وصولا الى العام 1903 م , وحين قرر البريطانيون الغاء " الصندوق الهندي " الذي كان يعتمد على اموال خيرية اوذه . ازداد وضع الهنود ترديا واصبح من الصعب تمييز الهنود عن غير الهنود بين العناصر الاثنيه في مدن العتبات المقدسه , بصوره متزايده في السنوات اللاحقه .
قدر عدد الفرس بثمانين الف فارسي في عام 1919 م وربما أكثر , وكانوا يتمتعون بوضع الرعايا الايرانيين , وكانوا سببا لتوتر العلاقات العثمانيه – القاجاريه ( اسلاف الصفويين 1794 – 1925 ) , وكان القناصل الايرانيين ومنذ العام اتفاقية العام 1875 م , يتمتعون بنفس امتيازات القناصل الاوروبيين في الامبرطوريه العثمانيه , ويتحكمون بالسلطه على الرعايا الايرانيين في قضايا القانون المدني والجنائي , والميراث . كما ثبتت الاتفاقيه اعفاء الرعايا الايرانيين من الضرائب التي يخضع لها الرعايا العثمانيون . وبرغم ان الاتفاقيه تنص على المعامله بالمثل الا ان الايرانيين استفادوا كثيرا منها . وتعكس الاتفاقيه ايضا السيطره الضعيفه للعثمانيين على العراق , وعدم رغبتهم في اندلاع حرب مع القاجاريين والذين وان كانوا لا يشكلون خطرا عسكريا حقيقيا على اسطنبول الا انهم انتزعوا من العثمانيين امتيازات لرعاياهم في العراق . كما كان ذلك يعكس محاولة اسطنبول لتهدئة الشيعه في العراق ازاء سياسة محمد علي التوسعيه من مصر , وفي مواجهة التغلغل الاوروبي المتعاظم ابان القرن التاسع عشر . كل ما سبق اعطى الشيعه الفرس افضليه على الشيعه العرب في العراق وفي مدن العتبات المقدسه , وجاءت الاتفاقيات لتعزز موقعهم الاقتصادي – الاجتماعي , وسهولة توافد الزوار , ونظّمت حركة نقل الموتى من ايران الى مدن العتبات المقدسه , وايضا جعل من الصعب على العثمانيين ان يمارسوا سيطره فعليه على النجف وكربلاء اللتين ظهرتا بوصفهما معقلي الاسلام الشيعي في العراق .