المرحوم الحاج نعمة غالي الفريجي / بقلم د.هاشم الفريجي
=================================
ولد الحاج نعمه الغالي الفريجي في أرياف ميسان عام 1932 وكان الولد الأصغر
لعائلة مكونة من ولدين وأربع بنات, وكان والده يجيد قراءة القران الكريم شانه
شان الكثير من أهالي الريف لكنه لا يحسن قراءة غير القران أو الكتابة, ولم
يكن في ذلك الوقت مدارس غير الملالي لتعليم الصغار فألحقه والده في إحداها
فكان الوحيد بين أبناء عمومته وأقربائه يجيد القراءة والكتابة وكانوا يلجئون
إليه لكتابة وقراءة رسائلهم كما انه بدا بشراء ما وقعت عينه عليه من كتب في
ذلك الوقت حتى ألف مكتبة صغيرة كانت موجودة في صندوق صغير في بيتنا في بغداد
عام 1958 وكان من ضمنها كتاب ألاغاني وكليلة ودمنه وألف ليلة وليلة.
ونتيجة لذلك لقب ب (الملّه) على عادة أهل الريف كلقب يطلقونه على من يجيد
القراءة والكتابة.
كان أخوه المرحوم محمد الغالي الذي يكبره بعدة أعوام شاعرا ينظم البوذية
والمواويل والبستات والهوسات في المناسبات ولكونه لا يجيد الكتابة فقد ضاع
شعره كله إلا النزر اليسير مما حفظه شاعرنا أو اتيحت له فرصة تدوينه.
ويروي الحاج نعمه أن والده كان يقول البيت أو البيتين ويحفظ بعض البوذيات
والمواليات ويرددها بعض الأحيان على مسامع أولاده مما دفعهما إلى محاولة نظم
الشعر بوقت مبكر هذا إضافة لكون اخوالهما شعراء من بيت أبو لسان-فريجات- وهو
لقب أطلق عليهم لكثرة شعرائهم أمثال كاظم إصنيع و مناتي إصنيع المعروفين في
ذلك الوقت.
لقد عاش شاعرنا حياة الأرياف ببساتينها و أهوارها وأنهارها وبرديها وطيورها
وتاثر كغيره من الشعراء ببيئته القروية, كما عانى من شظف عيشها وسيطرة
الإقطاع عليها مما دفعه إلى الهجرة المبكرة منها حيث وصل بغداد ولم يتجاوز
عمره خمسة وعشرين عاما, وساعده استقراره فيها على إكمال دراسته الابتدائية ثم
الالتحاق بكلية الشرطة في بغداد ليتخرج منها برتبة مفوض عام 1963.
وقد ذكر الشاعر نتفاً من تأريخ حياته وما حصل عليه من تعليم وبعض ما يجيده من
أمور في قصيده كتبها إلى احد أصدقائه الشعراء نذكر منها:
هاجر والدي وانا بعدني ازغير
راح الكربله يعبد يدور خير
وانه اوياه أخذني واحسن التدبير
حطني اهناك عد المله لاختاره .
***
احجيله حياتي مختصر كلها
صايم والصلاه قطعاً فلا ملها
مفوض مهنتي والرتبه لاحملها
نجمه وبالاصل من اهل ألعماره .
وحتى ذلك الحين كان لدى شاعرنا عدد لا بأس به من القصائد التي كتبها في بعض
المناسبات, كالقصيدة التي مطلعها:
كتلج ولج عميني ومن الطحن تعفيني
التي نظمها عندما طلبت زوجته منه إرسال كيس الحنطة إلى المطحنة ورفض ذلك
لانشغاله بامور أخرى أهم من ذلك الموضوع.
والقصيدة التي نظمها بناءً على طلب احد معارفه بعد خسارته الكبيرة في تجارة
القماش:
عارف بالتجارة ورافك التجار ما باع القماش اللي شراه وبار
ولكن اسم شاعرنا شاع وذاع بعد أن أحرز قصب السبق بفوزه بالمسابقة الشعرية
التي أعلنتها إذاعة بغداد بمناسبة الذكرى الثالثة لثورة الرابع عشر من تموز
واشترك فيها الكثير من شعراء العراق فكان الفائز الأول والوحيد بقصيدته التي
مطلعها:
ياهو الضحى ابحياته وانتصر وياهو الوحده لبس ثوب الفخر
ومنها:
هل صفه ماتنوجد بس بالزعيم
العبقري الناصح الحر العظيم
ابن يوم اربعطعش عبد الكريم
لا تظن يولد بعد مثله الدهر .
وبعد ظهور جريدة المتفرج التي اعتنت بالشعر الشعبي شارك شاعرنا في كثير من
مسابقاتها وفاز بالجائزة الثانية في مسابقة المجلة الرابعة ونشرت في العدد
104 سنة 1967 على مستهل نظمه الشاعر أبو فردوس وهو:
أحب كل منصف وعنده وفى وصادق
واكره الذي كذاب وينافق
ومنها:
والجذاب يتراوالك امرايه
ابوجهك وبكفاك ايصير سلايه
جذابين شفت ابعمري اهوايه
مثل افلان مامش بالجذب غارق .
كما فازت له قصيدة أخرى بالجائزة الثالثه، وكتب للمجلة عدة قصائد رداً على
قصائد لشعراء عديدين منهم الشاعر عبد الرزاق بلاسم العقابي المنشورة في
المتفرج العدد 183 بعنوان كتله وكال، وكذلك رداً على قصيدة الشاعرة مريم
السامرائي المنشورة في العدد 276.
كما كان صديقاً دائماً لبرنامج الشعر الشعبي في إذاعة بغداد الذي أذاع له
عددا من القصائد لمسابقات أعدها الشاعر جودت التميمي منها قصيدة انتي وانا
المنشورة في الديوان، وإجابة حزورة بقصيدة شعبية مطلعها:
البيض انصاف ماينباع
يرجع لو صدع مصدوع
بيضاتك سبع بيضات
حلي لو غلط مرجوع
ولا يفوت شاعرنا إن ينظم قصائده في المناسبات الدينية من ذلك قصيدته بمناسبة
ولادة الإمام الحسن عليه السلام وأخرى بمناسبة استشهاد الإمام علي عليه
السلام وقصيدة في ذكرى معركة بدر الخالدة.
والصفة المميزة للشاعر الحاج نعمه الغالي ميله إلى صياغة العديد من قصائده
حاوية كلمات عربية فصيحة ربما لا تجد مثلها في كثير من قصائد الشعراء الذين
عاصروه، ويعود ذلك إلى أن شاعرنا دخل المدارس وتعلم القراءة والكتابة وطالع
الكثير من دواوين الشعراء الكبار وربما تاثر بأفكارهم وصورهم الشاعرية من ذلك
قوله:
اختار خلك واتخذ صاحب أمين
والمقارن يقتدي ابطبع القرين
الريح تاخذ من تمر بالزين زين
وشين تاخذ من تمر هذا الاكيد .
وهو كما يبدو مأخوذ من قول الشاعر:
الريح آخذة مما تمر به نتناً من النتن أو طيباً من الطيب
وقوله في مكان آخر:
لا تنادي اهل الدوارس
نادي حي اليسمعك
ولو تشوف الحيّ دارس
سيل بالحي مدمعك
مأخوذ من قوله :
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي.
ويقول بمناسبة استشهاد الإمام علي عليه السلام:
اليوم هاشم راودتها أحزانها
جي سفينتها انفكد ربانها .
***
اليوم هاشم لبست اهدوم الحداد
جي سفينتها انفكد منها العماد
الموت حيدر ماجت السبع الشداد
والارض ماجت جميع اركانها .
والذي يطلع على قصائد الحاج نعمه يجده ذلك المتيم الذي غلبه الشوق والهيام
فديوانه يعج بقصائد الغزل الذي ينم عن صدق العاطفة وصفاء النية المشوبة بلوعة
البعد والبكاء على لقاء الحبيب وهو يبكي بكاء مراً على فراق حبيبه، وهو بعيد
عنه في بغداد بعد أن فارق ديار أهله وأحبائه في الجنوب فتراه ينادي ريح
الجنوب.
احب ريح الجنوب اتهيج يوميه
جي هالريح تحمل ريح فوزيه .
***
جي هل ريح تحمل ريح محبوبي
احبها اتهب مدام وتتجه صوبي
ياريح الجنوب ابريح مطلوبي
امتزج واقصد سمانا ابطيب ليليه .
ولما تداعب قلبه أطياف الحبيب البعيد ولا يجد واسطة تحمله إليه بسرعة توازي
حر أشواقه فانه يتمنى أن يركب (بمهفهفه) أي طائرة سريعة ليصل إلى حبيب قلبه
الذي تركه وحيدا هائما في ذكرى الغرام:
عونه الركب بمهفهفه
تطوي الارض ليكم طي
ويزوركم ياهل الوفه
ونيرانه اتخف اشوي
ويطول الحديث عن معاناة شاعرنا الذي يؤكد أن كل ما قاله عن الهيام والحب ما
هو إلا خيالات كانت تطوف في خياله عن حبه لكل أهله وأحبابه وإخوانه وان كل ما
كتبه هو غزل عذري يلهج به كباقي الشعراء الذين يقولون مالا يفعلون.
على انه يعلن اعتزاله للغرام بعد معاناته القاسية وبعد أن عاد إليه الحبيب
ليغربه بالعودة إلى أحضان الحب لكن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين فيقول:
جزت امن الهوى وتركيت
لتظن الهوى ايرد لَي
مية دين الك حلفيت
مالك ماتصدك بَي
***
لو جاني الهوى ودك باب
كلبي ما افتحنه
وكله انته صدك جذاب
اصيحن بيه اطردنه
اجاني وراد مني اعتاب
خفت اسكت واطمعنه
كلي انته سقيم وهاك
من ريجي اشواي ادوي .
ويقسم الا يعود إليه بعد ما ذاق كل ذلك العذاب ومرارة البعاد ويلزم نفسه
بشهود ثبوت يشهدون على موقفه هذا أمام الحبيب فيقول:
كتله ارجع بعد هيهات
للحب وامشي ابدربه
بيّه اجروح ما طيبات
منه وبالكلب حربه
جرعني الصبر كاسات
ريت ايبادره ربه
ما ارجع اطيت اشهود
حمير والعبوده وطي
ويعرج شاعرنا على عادة الشعراء فيبكي شبابه الذي هرب منه بلا عودة بكاء مراً:
من حلاة الروح ناديت الشباب
كتله جسمي اخلافك انتابه الخراب
كون ترجع واشجي عندك هالمصاب
واشجي ضيم الشيب عندك يا شريد .
وهو يناجيه ويرجوه أن يمر به ولو ليوم واحدا ليصبغ ما شاب من رأسه بسواد
فيقول:
ياشبابي لو ترد بس يوم عاد
تصبغ اشماشاب من راسي ابسواد
كال هيهات الجمع بين الاضداد
ابعيد من بعدي تفر منك الغيد .
وعلى عادته في صياغة أفكاره بشكل حوار بين متحادثين ليوصل الفكرة حية و واضحة
لسامعيه يقول على لسان شبابه الذي هرب منه:
صاح بيه اصباي ناداني ابزجر
كالي ابدربك بعد هيهات امر
بيني وبينك تره ايطول الهجر
الدهر يطرد وانته جدامه طريد
وعندما لايجد بدا من الاستسلام امام الزائر الجديد وهو يضع رحال سفره فوق
رأسه بلونه الابيض الناصع يضطر للتعايش مع ضيفه تعايشا سلمياً ويحاول تبرير
الامور بحكمة بالغة فيضرب لنا مثلا بالديك الذي لايهتم بالوانه وكانه يتفق مع
شاعر الفصحى الذي يقول :
عمري بروحي لابعد سنيني فلأهزأن غدا من التسعين
عمري الى السبعين يذهب راكضاً والنفس باقية على العشرين
ففي قصيدة (رحل مني شبابي وفاتني طيشه) يقول الشاعر:
رحل مني شبابي وما اظل مندوم
الناس اتشيْب كلها والخبر معلوم
الشيب ايزور شعرك لازم ابفد يوم
حتى لو صرت ياصاحبي ابشيشه .
***
اقنع بالقدر لاتندم اعلى الراح
خلها اتكون ايامك يخي بفراح
شوف الديج زاهي وكل وكت صداح
مايهتم تراه ابلونه وبريشه .
و يتحفنا الشاعر بجملة من تجاربه الغنية في حياة صارع فيها بين شظف العيش
ومصاعب الحياة وبين غربة طويلة قضاها متنقلا بين محافظات العراق شماله ووسطه
لفترة طويلة حتى حط رحاله أخيرا في بغداد بعد أن عانى الأمرين من معاناته في
الإيجار ومن جاورهم ومن صادقهم وهو يتعامل مع الجميع بطيبة قلبه وصدقه:
عذبني هذا الايجار
كل يوم نازلي ابدار .
***
كل يوم نازلي ابطرف
والسبب خافي منعرف
واللي علي كلش كلف
من كون اجاور خمار .
***
جاورني واحد جذاب
غشني عبالي ابن اطياب
كل يوم لازملي الباب
بلله يمعود دينار
***
ناوشته دينار وراح
قرضه ولا دور ارباح
لو تدري اشسوى اصياح
من كتله الموعد صار
****
م ن ق و ل