هذه المشاركة ذات صلة بملتقى المهندسين العرب : http://www.arab-eng.org/vb/showthread.php?t=233683&s=737d5f6fbc2750a3d85d4164665a0615#ixzz1p22U7wly
الدكتور طه حامد الدليمي
هل السومريون أول من استوطن العراق؟
ذكر الباحث (محمود البكر) أكثر من مرة ما يفيد - صراحة أو إشارة - أن السومريين هم أول من ظهر في بلاد وادي الرافدين أواخر الألف الرابع قبل الميلاد. وهذا يعني ضمناً أنهم سبقوا الساميين في ظهورهم على مسرح الأحداث في العراق، وأنهم أقدم حضارة منهم. وهذا - طبقاً للأدلة التي قدمها البروفسور والمؤرخ العراقي الكبير المهندس أحمد سوسة – غير صحيح؛ فالساميون ظهروا في العراق وبنوا مدنهم وأقاموا حضارتهم قبل السومريين بألفي (2000) عام على الأقل. لكن بعض المستشرقين المتحاملين على العرب أشاعوا عكس هذا؛ من أجل أن ينسبوا حضارة العراق إلى أصول (هندو- أوربية) غريبة عن الجذر السامي للحضارات التي توالى وجودها فيه؛ بغية إبعاد الوجود السامي العربي عن إسهامه في تقدم وتطور المدنية البشرية. فابتدعوا نظرية مُفادها أن السومريين ذوي اللغة والأصول الأجنبية هم مؤسسو حضارة وادي الرافدين، رغم علمهم بأن السومريين تواجدوا في السهل الرسوبي من العراق بعد الساميين بمئات أو آلاف السنين. وقد تحدث الدكتور أحمد سوسة كثيراً عن هذا، وطرح العديد من الأدلة تثبت هذه المعلومة التأريخية المهمة. وذلك في كتابه أو موسوعته التأريخية الكبيرة، الموسومة بـ (تأريخ حضارة وادي الرافدين).
أصل السومريين
يقول الدكتور أحمد سوسة في (ص365): لم يستقر الباحثون على رأي عن أصل السومريين، منهم من رأى أنهم جاؤوا مهاجرين من منطقة ما تقع شمال الهند بين أفغانستان وملوخستان، ومنهم من ذهب إلى أنهم جاؤوا إلى العراق من البحرين، ومنهم من اعتبرهم بدؤوا مما وراء القوقاز أو بحر قزوين، بينما ذهب رأي آخر إلى أنهم جاؤوا من السند. وأخيراً اتجه فريق آخر إلى أنهم من الأقوام التي قطنت العراق منذ العصور الحجرية وأن ثقافتهم أصيلة في العراق. ومهما كان الأمر فإن السومريين على الرغم من أن لغتهم أجنبية غير سامية فهم يعتبرون عراقيين بعد أن تثقفوا بالثقافة السامية العراقية وعاصروا الساميين وشاركوهم في حياتهم الزراعية. والذي نرجحه أن مكان أصل السومريين الأخير هو عيلام البطائحية المجاورة إلى منطقة الأهوار العراقية والمشابهة لها في بيئتها الطبيعية. والأرجح أن السومريين جاءوا بلغتهم الأجنبية من مكان آخر غير عيلام ثم استقروا في أهوار عيلام، ومنها انتقلوا إلى أهوار العراق المجاورة فنقلوا معهم لغتهم. مع العلم أنه لا يوجد بينهما حدود فاصلة.
وفي (ص367) يقول: لقد اتفق الباحثون إجماعاً بأن السومريين جنس غير سامٍ، وأن لغتهم غريبة عن المنطقة لا تشبه اللغات السامية ولا اللغات الآرية. ولا نعلم زمن مجيئهم إلى جنوب وادي الرافدين وإن ذهب البعض إلى أن ذلك ربما كان في الألف الرابعة قبل الميلاد. غير أن معلوماتنا عنهم ترجع إلى عصر فجر السلالات (3000-2370 ق. م.).
بداية وجود الساميين والسومريين في العراق
ذكر الدكتور سوسة - في مقدمة الكتاب (ص16 وما بعدها) - أن أقدم حضارة شهدها وادي الرافدين هي حضارة شمال وادي الرافدين (سورية وفلسطين) أو الحضارة السامية الغربية. وهي أقدم استيطان بدأ بأول هجرة من جزيرة العرب إلى الهلال الخصيب في بداية الألف التاسعة قبل الميلاد إلى وادي الفرات الأوسط، حيث تقع في تل مريبط - على بعد 80 كم شرقي مدينة حلب - أقدم قرية سكنية على الفرات بسوريا. وأقدم استيطان في فلسطين كان في الألف السابعة في أريحا.
أما جنوب وادي الرافدين (العراق) فظهرت فيه الحضارة السامية قبل 5000 سنة قبل الميلاد في حقبة العصور الحجرية أو عصور ما قبل التاريخ (أي قبل سنة 3000 ق. م.) أو عصور ما قبل الطوفان، متمثلة بحضارات (العبيد وأريدو ووركاء ما قبل التاريخ – وهي أقدم من وركاء ما بعد التاريخ - وجمدة نصر وأخيراً حضارة عصر مسيلم السامي). وهذه كلها وجدت قبل ظهور السومريين على مسرح الأحداث في جنوب العراق. وإن أقدم مدينة ظهرت قبل الطوفان هي أريدو، وقد كان يحكمها ملك من أصل سامي وهو (أيلولم). أما الحضارة السومرية فلم تظهر إلا في حقبة عصور ما بعد التاريخ وذلك في عصور فجر السلالات، المرتبطة بالحضارة السامية - السومرية المزدوجة، التي ازدهرت بعد ظهور السومريين. والتي كان المتفوق فيها العنصر السامي. ثم أعقب عصور فجر السلالات ظهور الحضارات السامية الثلاث (البابلية والآشورية والكلدانية).
ومن المعلومات المهمة في هذا الشأن ما جاء في (ص373) من أن أول ذكر للسومريين في التاريخ إنما ورد مقروناً باسم أكد، فقد ورد اسم السومريين أولاً بالأكدية باسم (سومر وأكد)، وذلك في حوالي (1450 ق. م.). وهو ما قاده إلى القول (ص277): أما حضارة السومريين التي تواجدت أول مرة في عصر فجر السلالات (3000-2370 ق. م.) فهي جزء من حضارة وادي الرافدين استقرت في العراق، ولا يصح أن نطلق عليها غير حضارة (سامية سومرية) لاشتراك العنصرين السامي والسومري في صنعها. وحتى في هذا الدور نفسه كانت للساميين السيطرة السياسية في بعض الحالات.
من وراء نشر هذه المغالطة التاريخية؟ ولماذا؟
في مواضع عدة من الكتاب – كما في المقدمة (ص15 وما بعدها) - يكشف لنا الدكتور سوسة عن السر الكامن وراء القول بأن الحضارة السومرية سبقت باقي الحضارات في العراق، فيقول:
لقد اعتاد الباحثون الغربيون والشرقيون في تاريخ وادي الرافدين قاطبة أن يستهلوا بحوثهم في تاريخ وادي الرافدين بجعل بداية تاريخ وادي الرافدين مقرونة بالسومريين ذوي اللغة الأجنبية غير السامية؛ بغية انتزاع أصالة حضارة وادي الرافدين السامية، وطمس التواجد السامي العريق وإسهامه في تقدم المدنية الإنسانية، فاعتبروا السومريين ذوي اللغة السومرية الأجنبية مؤسسي حضارة وادي الرافدين، وأن التاريخ يبدأ في سومر قبل أن يكون السومريون نزحوا إلى العراق.
وقد ثبت لدي من دراساتي الطويلة لتاريخ وادي الرافدين أن هناك مخططاً كان قد وضعه الاستعمار الغربي بزعامة الفنيين البريطانيين مسخرين الفن في تحقيق أغراضه الاستعمارية؛ وذلك لإقصاء السامية من تاريخ وادي الرافدين، والحيلولة دون إرجاع تاريخ حضارة العالم إلى الأصل السامي العربي. هذا في حين أن السومريين لم يظهروا على مسرح الأحداث إلا في وقت متأخر يرجع إلى العصور التاريخية (بعد 3000 ق. م.)، فقد سبقهم الساميون في استيطان وادي الرافدين قبل آلاف السنين في أزمان ما قبل التاريخ.
إننا لا نملك أية معلومات وثائقية أو أدلة تشير إلى أن السومريين تواجدوا في وادي الرافدين في عصور ما قبل التاريخ. وكل ما نعرفه عن السومريين يرجع إلى عصر فجر السلالات، أي إلى العصور التاريخية في وقت لاحق؛ لذلك إذا اعتبرنا الحضارة السومرية أصلاً لحضارة وادي الرافدين قبل تواجد السومريين في المنطقة نكون قد تجنينا على التاريخ.
لقد حاول الغربيون مسخ تاريخ وادي الرافدين فابتدعوا (هذه النظرية)؛ لجعل المبادءة الحضارية لقوم آري (غير سامي)، وبذلك طمس التواجد السامي وحضارته القديمة في المنطقة. وقد نجحوا في نظريتهم هذه بإغفال التسلسل الزمني على الرغم من أن هذه النظرية لا تستند إلى واقع تاريخي. نشر الغربيون هذه النظرية بين الباحثين قاطبة فتبعهم الباحثون العرب وقلدوهم حتى أصبحت النظرية التي ابتدعوها وكأنها حقيقة واقعة... هذا في حين أن كل الدلائل تدل على أن حضارة وادي الرافدين شمالها وجنوبها إن هي إلا حضارة سامية عربية ازدهرت في عصور ما قبل التاريخ، مصدرها البشري جزيرة العرب حيث قامت أقدم حضارة بشرية في الشرق بل في العالم دامت حوالي 100 ألف سنة (الدورة الجليدية الرابعة والأخيرة).
ويعود الدكتور أحمد سوسة مرة أخرى (ص25-26) إلى المؤامرة الغربية ويقدم شواهد عديدة لها منها: التركيز على الحضارة السومرية من خلال تأليفهم الكتب الكثيرة عنها مثل: (الفن السومري، والأختام السومرية، التاريخ يبدأ من سومر، وغيرها من المؤلفات التي لا تحصى). والشاهد الأخير واضح القصد في هذا المنحى. هذا في الوقت الذي تجاهلوا فيه وجود حضارة أو حقبة سامية سبقت السومريين، وأهملوا البحث في هويتها واكتفوا باعتبارها جزءاً من الحضارة السومرية التي ظهرت بعدها بأكثر من ألفي سنة، فأطلقوا عليها أحياناً اسم (مخلفات العصور الأولى) هكذا! وأحياناً يقولون: (إن أصحابها مجهولون) لإبعاد ذكر الساميين، ودورهم في تقدم حضارة وادي الرافدين.
ومن دلائل هذا التآمر أن الخبير الآثاري البريطاني المعروف (سيتون لويد) الذي كان يعمل خبيراً في دائرة الآثار العراقية انتقد في مقال له عن أريدو نشر في مجلة سومر سنة 1947 (كرامر) الخبير الآثاري في موضوع (السومريات) وعجب كيف يجرؤ في كتابه (الأساطير السومرية) الصادر سنة 1944 على التصريح بأن معظم أراضي السهل الرسوبي من بلاد ما بين النهرين كان بلا شك يسكنها الساميون عندما غزاها السومريون من غير أن يخشى العاقبة! ويتساءل سوسة عن الجهة التي كان يمكن أن يخشاها كرامر لتصريحه ذاك؟! لكن العجيب أن ذلك التصريح اختفى من الطبعة الثانية للكتاب الصادرة في سنة 1961! بل لم يكتف بهذا حتى أصدر كتاباً للتأكيد على أنه عدل عن رأيه الأول، وسماه (التاريخ يبدأ من سومر) (History begins at Sumer)!! وذلك في سنة 1959.
التاريخ مستهدف والعروبة هي الهدف والإسلام هو الغاية
تأمل هذا الحقد على العرب والعروبة وتاريخهم! ولا يتعارض هذا مع تبني الدوائر الغربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين موضوع (القومية العربية)؟ فإنهم لم يفعلوا ما فعلوا حباً بالعرب، أو إيماناً بالعروبة، وإنما كرهاً بالإسلام وكيداً بأهله؛ حينما خططوا ليجعلوا القومية بديلاً عن الإسلام لفترة معينة، يحققون فيها غرضاً محدداً. ويعودون من بعد إلى مقتضى حقدهم وبغضهم. ثم لما تحقق الغرض انتهت تلك الفترة بما فيها. وهذا ما ينبغي أن ينتبه إليه بعض النائمين الذين لا زالوا يهاجمون العروبة، أو لا ينتبهون إلى دورها النافع في خدمة قضيتنا الإسلامية والوطنية، لا سيما في الدول المبتلاة بالخطر الشعوبي. لقد ذهب ذلك الزمان الذي قال فيه ضابط الاستخبارات البريطاني المشهور (لورنس) في كتابه (الثورة العربية) : " وكنت طول الطريق أفكر هل يمكن أن نجعل القومية العربية بديلاً عن الإسلام "، أو عبارة أشبه بهذه.
وضحكت بمرارة يوماً من أيام سنة (2000 ب. م.) وأنا أستمع إلى شاعر إسلامي فاضل مشهور شيخ طاعن في السن يلقي قصيدة في احتفال بمسجد في قرية (البو علوان) التابعة لمحافظة (الحلة) وهو يدعو في قصيدته إلى الإسلام، ويهاجم (غسان وقحطان وعدنان)! قلت: " جاء الأخ يضرب بطبله وقد ماتت العروس قبل أسبوع "! أين هذا من الزمن؟! يا سيدي! هم الآن يجزؤون المجزأ، ويقسمون المقسم، ويحاربون أو يعرقلون أي مسعى للتقارب بين الدول والأقطار العربية. ومعهم – بل على رأسهم وفي المقدمة – إيران.
ومن هذا المنطلق العروبي والإسلامي المعكوس يزورون تاريخنا، ويحاولون طمس هويتنا. وما فعلوه بالآثار العراقية بعد الاحتلال أوضح شاهد. ومن قبله ما فعلته وتفعله إيران من ذلك بالأحواز شاهد صدق على ما نقول.
ولقد ذكر الله تعالى المزورين الذين يتعاملون مع الحقائق والنصوص بشخصانية منحازة بعيداً عن الموضوعية التي يفرضها البحث النزيه، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:41).
ويقول سبحانه وهو يبين لنا العلة وراء هذه العداوة : (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120).
وهذا البحث القصير في موضوع الساميين والسومريين يكشف لنا عن عمق هذا التزوير، وهذه العداوة. كما يضع أيدينا على حقيقة مهمة هي أن (الشعوبية) كما هي نزعة فارسية شرقية فهي نزعة رومية غربية كذلك، على تفاوت في الشدة والعداوة لأسباب خارجة عن نطاق موضوعنا؛ وذلك أن العروبة مادة الإسلام، والإسلام روح العروبة. فالطعن في أي واحد منهما طعن في الآخر. وفصل أحدهما عن الآخر كفصل الروح عن الجسد. وفي القرآن شواهد كثيرة على ما نقول، ولكننا لسنا في صدد إثبات هذه الحقيقة فالأمر مفروغ منه، وإنما في صدد ضرورة تبنيها، والانتباه إلى أهميتها في الخطاب.
على أن الفرس - وخلافاً لكل الشعوب المسلمة - يكرهون العرب كما يكرهون الإسلام والمسلمين، ويطعنون فيهم جميعاً. فالفرس لا يعادوننا لأننا مسلمون فحسب، ولكن لأننا عرب أيضاً. فإدخال العروبة في معادلة الصراع ضرورة لكي يعتدل ميزان القوى المتصارعة المختل في غياب هذا العنصر الفعال.
لقد آن الأوان لكي نتخلص من ردود الفعل السلبية ضد من تطرف في تبني القومية فجعل العروبة بديلاً عن الإسلام، فكان الرد أن أخرجت العروبة من ساحة الصراع. وإذا كان الإسلام هو الروح وهو الأصل والأساس، فلا يضيره - بل يشده ويقويه - أن تأخذ العروبة موقعها في سلم الخطاب دون إفراط أو تفريط.
م ن ق و ل