فن العملة الإسلامية وتطوره
منذ الرسالة المحمدية حتى الخلافة العثمانية
بقلم الأستاذ الدكتور/ سمير شوشان
منذ عهد النبى صلى الله عليه وسلم تعامل المسلمون بالدراهم والدنانير البيزنطية والفارسية، وجاء فرض الزكاة بهذه العملات، ولم يطرأ على هذه العملات أى تعديل سواء أكان فى الشكل الفنى أم فى مضمون الكتابات. وفى عهد الخليفة أبى بكر الصديق استمر استخدام هذه العملات بدون أى إضافات، فما دام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد أقرها فليستمر التعامل بها. وفى عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب أراد المسلمون إبراز شخصيتهم المستقلة رغم الانشغال بالفتوحات، فضربت العملات الإسلامية ذات الطابع البيزنطى أو الفارسى، ولكن بإضافة كلمات عربية مثل (الحمد لله) و(محمد رسول الله) وأسماء الخلفاء الراشدين بدلاً من اسم كسرى، فظهرت العملات تحمل وجه كسرى الجانبى وعلى رأسه التاج وعلى رأسه التاج، وعلى الوجه الآخر معبد النار وشكلاً يمثل الملك مع حارسين مدججين بالسلاح، وحول هذه الأشكال الكتابات العربية السالفة الذكر، وتمثل هذه العملات مجرد محاولات أولية لم تستكمل عناصرها من حيث إبراز الشخصية الإسلامية المتكاملة، وهو ما وجدناه فى عهد الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان سنة 65هـ حيث بدأ بسك دنانيره على طراز العملات البرونزية البيزنطية والتى كانت تمثل هرقل وولديه وتضرب بدار السك فى مدينة الإسكندرية، وكان ذلك بداية مراحل تطور العملة الإسلامية.
شهادة التوحيد على العملة
ثم بدأت مراحل تطور العملة الإسلامية الحقيقية بوضع عبد الملك بن مروان لشهادة التوحيد على العملات، كما ألغى فى هذه المرحلة صورة هرقل وولديه واستبدلها بصورته هو، ونراه فيها واقفاً مرتدياً العباءة العربية وظهر رأسه بغطاء الرأس العربى، وحول الشكل كتابات كوفية بشكل دائرى، ويبدو عبد الملك بن مروان فى هذه العملات وبيده سيفه رمز الإمامة والجهاد فى سبيل الله، وقد اختلف الباحثون حول هذه الصورة هل هى صورة عبد الملك بن مروان شخصياً أم مجرد رمز لخليفة المسلمين فقط. وفى المرحلة الأخيرة لتطور العملة فى عهد عبد الملك بن مروان أصبحت العملات تعكس خصائص الفن الإسلامى وأصبحت عربية خالصة بعيدة عن التأثيرات البيزنطية وذلك بما تحمله من عبارات إسلامية لشهادة التوحيد وتاريخ الإصدار، ونلاحظ تشابه العملات التى تصدر فى مصر ودمشق فى هذه الفترة حتى ليصعب الفصل بينها دون قراءة مكان الإصدار.
أما العملات العباسية فتتشابه كثيراً والعملات الأموية، وظلت تلك العملات تصدر فى مصر ودمشق بنفس العبارات فيما عدا إضافة تاريخ الإصدار مع كتابة اسم الخليفة تحت الشهادتين على أحد وجهى العملة، وتميزت العملات العباسية بدقة الخطوط الكوفية وجاذبيتها ورشاقتها سواء أكان ذلك فى مركز العملة أم فى الخطوط الدائرية حول الهامش باستقامتها وهندستها، فجاءت العملات العباسية أكثر دقة.. ولا تختلف العملة الإسلامية فى الدولة الطولونية أو الإخشيدية كثيراً عن العملات العباسية من حيث الشكل أو المضمون الخاص بالعبارات، ولم تزد إلا فى إضافة اسم حاكم مصر بداية من أحمد بن طولون.
القفزة الفنية للعملة الإسلامية
وفى عهد الدولة الفاطمية فقد أحرزت العملات تطوراً كبيراً فى المعالجة الفنية، واختلفت شكلاً ومضموناً، إذ نجدها كثيرة النقوش والزخارف، وعلى كل وجه من وجهيها ثلاث دوائر متداخلة كتب فيما بينها بالخط الكوفى على وجه منها شهادة التوحيد وعلى الوجه الآخر اسم الخليفة وكتابات أخرى.. وتختلف العملات فى عهد الدولة الأيوبية اختلافاً كبيراً عن سائر عملات العصور الإسلامية السابقة، فلم يعد يكتب عليها أى صيغ لشهادة التوحيد، بل اكتفى فى العملات الأيوبية بكتابة اسم الخليفة واسم حاكم مصر، واختلفت العملة الأيوبية فى التصميم الفنى للعملة، فأصبحت الكتابات تنتظم داخل مربع ومن حوله الزخارف والكتابات، واختلفت طبيعة التشكيل للكتابة الكوفية فأخذت شكلاً زخرفياً فيه الكثير من الفنون التشكيلية المبتكرة.
العملة الإسلامية من شجرة الدر إلى بيبرس
وعن تطور العملة الإسلامية فى عصر دولة المماليك البحرية فتبدأ هذه الفترة بتولى الملكة "شجرة الدر" زوجة الملك الصالح أيوب عرش مصر سنة 648هـ-1250م فكتبت على وجه عملتها "المستعصمة الصالحية" ملكة المسلمين، والدة المنصور خليل أمير المؤمنين، وحولها صيغة مطولة لشهادة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله".. وتعد هذه العملات من أندر العملات على الإطلاق إذ لم يتجاوز حكم شجرة الدر الشهرين. ومن ملوك هذه الفترة السلطان قطز الذى تولى حكم مصر سنة 657هـ-1259م، وسجل انتصاره الكبير على المغول فى عين جالوت على نقوده الذهبية والفضية فحملت اسمه منفرداً "الملك المظفر سيف الدنيا والدين قطز" وتحمل نفس التشكيلية لعملات الملك صلاح الدين الأيوبى.. وتعتبر عملات الظاهر بيبرس من أجمل عملات تلك الفترة لدقة نقوشها وجمالها إذ جمعت الكثير من الخصائص الفنية من دقة فى المعالجة وإضافة حلول تشكيلية جديدة تتمثل فى المزج بين الكتابات وشكل الأسد الذى يقفز إلى جهة اليسار ويرمز إلى نجاحه فى نقل الخلافة العباسية من بغداد إلى القاهرة سنة 659هـ حيث أصبح لقبه على العملات "قسيم أمير المؤمنين".
الدينار الأشرفى بدلاً من العملة الإيطالية
وعن تطور العملة فى عهد دولة المماليك الشراكسة والبراجنة فقد أنشئت بالإسكندرية دار جديدة لسك العملة بجانب دار السك بالقاهرة، وفى محاولة لتطوير العملات المملوكية لجأ السلطان الأشرف سيف الدين برسباى إلى إصدار عملاته الذهبية بنفس وزن العملات الإيطالية الذهبية التى كانت تسود العالم فى ذلك الوقت (عملة الأفرنتى ووزنها 3.45جرام) ثم أبطل التعامل بالعملات الذهبية الإيطالية واستبدلت بالدينار الأشرفى الذهبى الذى يجمع بين التشكيل الفنى والدقة الصناعية حيث انتظام الاستدارة والسمك والوزن المعلوم الثابت، وتمثل هذه المرحلة اكتمال القيمة الفنية والتكتيكية.
مع العثمانيين فقدت العملة الإسلامية شخصيتها
ويؤكد د.شوشان أنه مع امتداد سيطرة الأتراك العثمانيين إلى مصر سنة 923هـ-1517م بعد أن قضوا على دولة المماليك فى مصر؛ تبدأ صفحة جديدة للعملة الإسلامية، فقدت فيها هذه العملة الكثير من شخصيتها الإسلامية ولم تعد تعبر إلا عن السلطة الحاكمة، فقد أزال العثمانيون شهادة التوحيد والآيات القرآنية من على العملة واستبدلوها بالألقاب الفخرية للحاكم العثمانى مثل صاحب العز والنصر فى البر والبحر وخاقان (أى رئيس) البحرين.